كارل صديق أصادفه أحياناً عندما أتمرن في (الجِم) القريب من منزلي. ذلك المساء، كنا قد أنهينا التمرين و وقفنا نتحدث، حين مرت من أمامنا فتاة شقراء حسناء، تلبسُ (شورت) قصير و (بروتيل) فاتن، جمالها أكبر بكثير من قدرة الوصف على التعبير. مرت كزخة جمال بهية مفاجئة، تأملتُها و هي تسيطر بحسنها على المشهد، حين غابت كان كارل يعبث بهاتفه. في لحظات تذكرتُ ضحايا التحرش الجنسي الكثيرات في بُلداننا، قلتُ: كارل، هل لي أن أسأل عن شيء؟ قال: نعم، تفضل. سألته: هل رأيتَ الفتاة التي مرت من هنا؟ أجاب: آه، نعم رأيت. قلتُ: عندما تمر فتاة مثيرة من أمامك، ألا تسترعي انتباهك؟ لم أركَ تنظر إليها. قال: بلى نظرتُ و أعجبتني، و لكن دون أن ألفت الانتباه، ليس من حقي أن أزعجها.
صاحبي لا يعرف شيئاً من مفاهيم المروءة العربية و العِرض و الشرف الرفيع الذي لا يسلم من الأذى، لكنه يفهم معنى الرجل الانسان الذي لا ينفلت وراء غريزته. لا يعني هذا أن مشكلة التحرش غير موجودة في أوروبا، لكن الفرق أن المجتمعات التي نصفها بالإنحلال الأخلاقي تحاسب المجرم و لا تلقي باللوم على الضحية. مجتمعاتنا quot;المحافظةquot; تتستر و تبرر، بينما مجتمعاتهم quot;المنحلةquot; بزعمنا تلاحق الجناة و تجهد في إيجاد الحلول. كارل هو نتاج مجتمع صادق مع نفسه يحترم حرية الفرد و يلزمه في نفس الوقت بواجباته، مجتمع يبحث عن عيوبه و يعترف بها ليعالجها، مجتمع لا يدَّعي الحَوَل إذا ووجه بمصيبة من مصائبه فيحاسب الضحية و يشجع الجاني بالسكوت عنه فيتمادى.
لا يقتصر التحرش على المحرومين و لا على أعمار معينة، كثيراً ما يكون المتحرش ذا نفوذ و مال، متزوج و له عيال. و لا علاقة للأمر بملابس المرأة و مظهرها، المحجبات و المنقبات يتعرضن للتحرش كغيرهن. السبب الأول في quot;استفحالquot; ظاهرة التحرش الجنسي في المجتمعات quot;المحافظةquot; هو حماية المجتمع للمجرم. بعكس ما يدعيه المجتمع quot;المحافظquot; من رفض ظاهري للتحرش، هو يرسخ بعقليته و تصرفاته ظاهرة التحرش و يدفع بها الى الاستقواء و الخروج عن السيطرة. نحن ندعي أننا quot;نعليquot; من شأن المرأة و quot;نصونهاquot; ثم لا نحرك ساكناً لدفع الأيدي و البذاءات عنها، لا بل نجتهد في إيجاد الأعذار للمعتدي ثم نتهم الآخرين بالتفسخ الاخلاقي و هم لا يوفرون مسعىً قانونياً أو عملياً لايقاف المتحرشين.
مجتمعاتهم جزء من الحل، فهي تعمل على بناء الرجل الانسان، و مجتمعاتنا جزء من المشكلة لأنها تكرس نموذج الذكر المنفلت غريزياً، تطلق له العنان بقوانين مجحفة و تمييز اجتماعي فاضح يرى في الرجل صاحب حق أزلي و في المرأة مطمعاً. عندما تخاف المرأة أن تشير بإصبع الاتهام إلى المتحرِش بها لئلا تُنبذ و توصم، عندما يكون خوفها من المجتمع الذي يُفترض به أن يحميها، فلابد و أننا نسير في الاتجاه الخطأ.
المروءة الحق هي الإنسانية، على الأقل هذا من معانيها في لسان العرب.
* شاعر و كاتب عراقي