إن المعطيات المتلاحقة على الساحة الانتخابية العراقية تكاد تؤكد أن ثلاثة أرباع الكتل والقوائم والائتلافات، ومن ورائها، كما ما يُفترض، ثلاثةُ أرباع الشعب العراقي، قررت، بشكل أو بآخر، عدم السماح لنوري المالكي بدورةٍ ثالثة. ولكلٍ أعذارُه ومبرراته ودوافعه، ولكنهم جميعا متفقون على مناشدة الناخبين تحكيمَ العقل والمصالح الوطنية واختيار الأفضل لإخراج الوطن من المآزق التي أوصلته إليه حكومة فاشلة لم تحسن القيادة، فأغرقته بالأزمات والانقسامات والكراهية والحرائق والخراب.

فالمرجع الشيعي الأعلى السيد السيستاني في اجتماعه مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر دعا رعاياه إلى ضرورة نبذ الطائفية، واختيار الأكفأ وتقديم المصالح الوطنية على المصالح الضيقة والوقوف بوجه الفساد.

والمرجع الديني بشير حسين النجفي قال إن الواجب يفرض على المواطنين المشاركة الواسعة في الانتخابات، وعدم المشاركة يسمح باستمرار الفاشلين، وصعود الفاسدين، ورجوعهم مرة اخرى ليتحكموا بخيرات البلاد والعباد. كما حرم انتخاب أي قائمة يوجد لها وزير، ولو واحد، يمثلها في الحكومة الحالية. وحذر الناخبين من quot; الانخداع بالوعود الفارغة من تلك الوجوه المتملقة التي لم يجنٍ العراق وشعبه منها الا الخسران quot;. وقال: quot; إن الذين جاءوا إلى الكراسي خدموا جيوبهم ، ولم يخدموا الشعب، فلا بد من التغير والنهوض بهذا البلد العريق، وإن ما يؤسفني ويؤلمني، ويؤسف ويؤلم إخوتي المراجع جميعا، هو عدم قيام الحكومة بواجباتها أبدا، بل لا نرى غير افتعالٍ للأزمات التي توالت بفعل سوء الادارة. فلا خدمات ولا أمن ولا أمان، ودماء العراقيين تراق كل يوم تقريبا، بسبب التقصير في الأجهزة الأمنية، والصراع القائم، والتجاذب السياسي على المقاصد الحزبية والشخصيةquot;.

والمرجع الديني الشيخ إسحاق الفياض، أحد المراجع الأربعة في النجف قال في رد على سؤال لأحد أتباعهحول الانتخابات البرلمانية المقبلة إن ldquo; الانتخابات ضرورة وطنية لا ينبغي التفريط بهاrdquo;. ldquo;وعليه فان تغيير الأوضاع التي يعيشها الشعب منوطة بحسن اختيار الشعب لممثليه الأمناء الكفوئين المخلصين الذين يُؤثرون مصالح الشعب على المصالح الخاصة والفئوية والحزبية والعشائريةquot;.

ولا يكف الشيخ عبد المهدي الكربلائي معتمد السيد السيستاني في جميع خطب الجمعة عن تكرار القول إن المرجعية تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين والقوائم المتنافسة، لكن هذا لا يعني الرضى عن الانتهازيين والفاشلين.

وأكد على أهمية الانتخابات في تحقيق التغيير المطلوب نحو الأفضل من خلال حسن الاختيار، quot; لأن هذا هو الأساس في تشكيل حكومة رشيدة صالحة وبرلمان يقوم بمهامه الدستورية لخدمة المواطنين وتشكيل نمط جديد من الممارسة السياسية التي تقوم على تجديد الوضع الحكومي بالشكل الذي يرغب فيه الناسquot;.

وزعيم laquo;التيار الصدريraquo; مقتدى الصدر وصف في وقت سابق نوري المالكي بأنه ديكتاتور، وقال إن سياسته هي laquo;تكميم أفواه معارضيهraquo;، مشدداً على رفض ترشيحه لولاية ثالثة.

ورئيس مجلس النواب زعيم قائمة laquo;متحدونraquo; أسامة النجيفي كرر رفضه بشكل قاطع منح المالكي ولاية ثالثة، وقال في المؤتمر الانتخابي لائتلافه في محافظة نينوى إن laquo;أي تجديد لولاية رئيس الحكومة سيكون إذعاناً للنهج التعسفي، وسيكون تجويزاً للمجازر والمذابح التي ارتكبت بحق الابرياء من المواطنين. raquo;.

وكتلة عمار الحكيم، أيضا، أكدت أن laquo; التحالفات السياسية القادمة ستكون مع من يشاركنا في برنامجنا الانتخابي لإخراج البلاد من حالة الإرباك التي تعيشهاraquo;.

أما laquo;التحالف الكردستانيraquo; فقد أعلن على لسان إحدى نائباته في البرلمان أن laquo;تولي المالكي رئاسة الوزراء مرهون بنتائج الانتخابات، اذا كانت نزيهة ونتائجُها تعكس إرادة حقيقة. فهي التي ستحدد إلى أيٍ من الكتل ستذهب رئاسة الوزراء، ومن سوف نرشحraquo;.

وأشارت الى ان laquo;التحالف الكردستاني بالتأكيد سيضع ملاحظاته على أي تسمية لا تتوافق ورؤيتنا، تماماً مثلما سجلنا تحفظاتنا 2010 على مرشح التحالف الوطني ابراهيم الجعفريraquo;

وأكدت laquo;وجود مشاكل بين المركز والاقليم أثناء تولي المالكي رئاسة الحكومة، وهو ما سيؤثر على رأي الأكراد في شأن ترشحه لولاية ثالثةraquo;.

ثم أعلن أياد علاوي أنه لن يسمح بإغتصاب السلطة مجددًا مثلما حصل عام 2010، (لم يقل كيف وبأي سلاح) مؤكدًا وجود اتصالات من أجل التحالف مع كتل الصدر وبارزاني والحكيم في مرحلة ما بعد الانتخابات.

أما القوى التي يضمها التحالف المدني الديمقراطي وهي: الحزب الشيوعي العراقي، الحزب الوطني الديمقراطي، حزب العمل الوطني الديمقراطي، حزب الأمة العراقية، حركة العمل الديمقراطية، بالإضافة إلى شخصيات ديمقراطية مستقلة، والحركة الاشتراكية العربية، وحزب الشعب، وكتلة ابناء الحضارات، فموقفها مبدأي وعلني وحازم وصريح، وهو مع إنقاذ العراق من الهوة التي أسقطته فيها قيادة المالكي الفاشلة.

إذن ومن كل هذه المقدمات كان يمكن أن نحدد نتائج الانتخابات، بسهولة، لو كانت تجري في دولة أخرى غير العراق، وفي غير واقعه الحالي المحفوف بالمفاجآت والمطبات والتقلبات المتلاحقة.

وعليه فأن المسألة، كما يبدو، لا تقررها فتاوى المراجع ولا نصائح الكتل والقوائم والائتلافات وحدها، حين تكون شريحة واسعة من (الجماهير العريضة) مُخرَّبة موسخة، مستعبَدة بحاجتها وفقرها، ومسجونة في جهالتها وتعصبها الطائفي الأعمى.

فبعد كل الذي نشره المالكي من ظلام وشحة ودم ودموع في مدارس أبنائها ومستشفياتها وشوارعها وأسواقها ومنازلها، وبالأخص أبناء طائفته ذاتها التي أقحمها في صراعات دامية مع شقيقاتها المكونات العراقية الأخرى دون مبرر ولا سبب معقول سوى الحمق والأنانية والهوس المرضي بالسلطة، ما زال هناك مصفقون ومهللون كثيرون، معممين ومعقلين وأفندية، يتقافزون لتقبيل يده، ويهتفون بحياته وحياة عهده غير الأمين.

لكن، وبرغم ذلك، وبكل الحسابات، لن يكون من السهل عليه أن يحصل على مقاعد كافية تجعله قادرا على تحقيق حلمه بتشكيل حكومة الأغلبية، أو دولة (آل البيت)، كا زعم، لكي يصبح أكثر تحررا من قيود الشراكة الوطنية التي لم يلتزم بأحكامها وشروطها، أصلا، من الأساس.

ففي أعقاب انتخابات 2010 لم يستطع حزب الدعوة وتجمعات أخرى تحالفت معه فيما يسمى بدولة القانون أن يحصل إلا على 92 مقعدا، ولم يستطع المالكي أن يتربع على عرش العراق لولا عصا قاسم سليماني، ولولا اضطرار المجلس الأعلى والتيار الصدري للانصياع لإرداتها القاهرة.

إذن، وفي أفضل التوقعات، لن تتوفر لتحالف المالكي هذه المرة، إزاء مواجهة حامية وواسعة مع حشود معادية له في المعسكر الشيعي نفسه، بهذه السخونة والسعة والجدية، فرصة الفوز بنجدة ثالثة من المجلس الأعلى والصدريين والمستقلين في الائتلاف الشيعي، مثلما حدث في أعقاب النتخابات 2010.

بعبارة أخرى، لا يملك المراقيب السياسي المحايد إلا أن يتوقع نهاية مدوية ومؤكدة لكابوس كلكل على العراقيين ثماني سنين، إذا ثبتت المواقف وصحت النوايا.

ولكن الذي يُحزن حقيقة، أن فوزه مشكلة، وعدم فوزه مشكله أخرى أكبر وأخطر. فهذا الرجل الذي بلغ به الهوس السلطوي أقصى حدوده، والذي تمكن بالخداع والغش والنفاق من حصر قوة الدولة وجبروت ثرواتها بيده وحده وبأيدي قلة من أفراد أسرته ومساعديه ومستشاريه أصحاب الشهادات المزورة، أصبح مدركا بقوة أنه لم يترك للصلح مطرحا، بعد أن قطع أشواطا بعيدة في معاداة أغلب القوى السياسية الفاعلة والمكوناتالأساسية، حتى التي حملته على أكتاف أبنائها، من داخل طائفته ذاتها، وخاض معارك كسر عظم وتسقيط وتجريح وتأزيم لا مع الداخل فقط بل مع دول الإقليم، وأن فشله في الإمساك بالسلطة هذه المرة يعني أن عليه أن يواجه كوارث الزمن القادم المجهول التي تنتظر.

وإزاء واقع بهذا الحجم من الحساسية والحرج لابد له أن يختار. إما أن يستسلم للواقع الجديد بأريحية وروح وطنية وإحساس عالٍ بالمسؤولية والشجاعة، ويجنح للسلم، ويحقن دماء العراقيين، ويجنبهم الاقتتال والاحتراب والفراغ الأمني والسياسي، ويحمي شعبه والمنطقة من مخاطر حريق لا يمكن التكهن بأخطاره ونتائجه المدمرة، وهذا أمر بعيد عليه، وغير متوقع ولا منتظر من واحدٍ عودنا على الانفعال والارتجال وغرور القوة والهوس بالسلطة.

لقد جربه العراقيون سنوات طويلة كالحة قاحلة مرهقة مقلقة مرعبة مظلمة، حتى لم يعد لدى أيٍ منهم أملٌ في ذئبٍ يصبح حمامة، وحنضلة تقطر سكرا وعسلا وعنبرا، فير يوم من الأيام، أو أن يعمد إلى المشاكسة والمكاسرة والمراوغة والمماحكة وخلط الطين بالعجين، واختلاق الأعذار والمبررات، لتعطيل تشكيل حكومة يسلمها رقبته ورقاب كثيرين ممن شاركوه الظلم والعبث والفساد، خصوصا وأن حكومته ستكون حكومة تصريف أعمال، بموجب الدستور. يساعده ويغريه بذلك ما في إمرته من مليشيات وقوى أمن وشرطة ومخابرات ووزارات ومؤسسات ولاؤه له شخصيا وليس للدولة التي كان اسمها العراق.

وإذا كان في الدورة السابقة، 2010، قد عطل الحياة السياسية، ووضعها على كف عفريت إلى ما يقرب من عام، وهو المكلف بتشكيل الحكومة، فكم سيحتاج لتعطيلها هذه المرة قبل أن يرضخ، في النهاية، لإرادة المجتمع، ويحمل عصاه ويرحل، كما فعلت أمُ قشعمِ (1)؟؟

__

(1) القُشْعُوم هي الاسم الذي يطلق على صغيرة الجسم، وأم قشعم امرأة شريرة من بني كلب، سببت لبني قومها العديد من الكوارث بفتنها وسلاطة لسانها، حتى اضطروا لتهجيرها عنهم. وعنها قال الشاعر القوصي:

إِلى حَيث أَلقَت رَحــــــلَها أُمُ قشعمِ توجَّهْ فَما في النـاس مِن مندمِ

وَوَدعْ وَفارقْ أَرضَ مَصر وَلا تَعُد فَهَذا فراقٌ خَيــرُ عيـدٍ وموسمِ