لم تكن هي المرة الأولى التي يتم فيها عرض فيلم سنيمائي بعد السماح به من قبل الرقابة وطرحه للجمهور، لكنها السابقة الأولى التي يتدخل فيها رئيس الوزراء فيأمر بإعادة الفيلم إلى الرقابة بعد جدل شديد حول ما يقدمه الفيلم من مشاهد فاضحة وكلمات بذيئة.
في منتصف الثمانينيات صادر وزير الثقافة عبد الحميد رضوان فيلمي quot;درب الهوىquot; وquot;خمسة بابquot; بعدما وافقت الرقابة على عرض كل منهما، وتم رفع الفيلمين ورفعت القضايا بشأنهما وتمت إعادتهما بعد أكثر من ثلاث سنوات. قبل ذلك وفي عام 1971 طالبت الكنيسة بمنع عرض الفيلم الايطالي زوجة القسيس فقامت الرقابة برفعه من دور العرض لتناوله زواج القساوسة، وفي عام 1950 منعت الرقابة المصرية عرض أحد الأفلام الفرنسية والذي تناول حياة ملكة فرنسا، متخذة طريق السلامة بعد تهديدات وردت لها من القصر الملكي حيث ثار تخوف أن يتسبب الفيلم الفرنسي في تجرؤ الناس على الملك والملكية وقتها. وما حدث بفيلم quot;المهاجرquot; ليس ببعيد ، عندما ثار الجدل بشأنه على اعتبار أنه يصور حياة يوسف النبي ويأتي بمشاهد لا تليق به، وقتها تدخل الأزهر وحسمت المعركة لصالح المعترضين.
شخصيا لم أكن أريد ولا أنتوي أن أكتب اطلاقا عن هذا الفيلم، لأن الكتابة عن أي عمل فني بالمديح او التقريض إنما تشكل دعاية له، لكن بوصول الأمر الي هذا المنحنى كان لابد أن نتكلم، فالرذائل إذا سكتنا عنها توحشت وتوغلت دون أن ندري، والسكوت عن ممارسات تقوض المجتمع إنما هو سكوت الخانعين
كنا نتابع ردود الفعل ونرصد آراء من شاهدوا الفيلم ومن لم يشاهدوه. جميع النقاد الذين تابعتهم لم يقولوا كلمة ترفع من شأن الفيلم فنيا، كلهم هاجموه واجتمعوا على أنه لا يحتوي على أي لغة سينمائية يمكن أن يتحدثوا فيها، وإذا كان هذا رأي أهل العلم، فهل خالفهم المشاهدون؟.
معظم من قابلناهم شاهدوه لكنهم خرجوا آسفين على ما أصاب السينما من دمار، ومن استحسنوه إنما جاء استحسانهم فقط لأنهم لم يذهبوا للفيلم كعمل فني، لكنهم ذهبوا لمشاهدة هيفا وهبي.
لا ينكر أحد أن فيلم quot;حلاوة روحquot; إنما هو نسخة مشوهة من الفيلم الإيطالي مالينا لنجمة الإغراء مونيكا بيولتشي، لكن فيلم مونيكا كان له هدف ورسالة، فقد ربط الحرب بالجنس بالحب بالفقر، صوّر ويلات الحرب واستحضر البطلة وكأنها إيطاليا التي تكاتفت عليها كل المحن ووقفت تحاول جاهدة ان تستمر، صوّر حياة المرأة وكيف تعيش في خوف وقت الحرب وقد تركها زوجها ليقف في صفوف المحاربين، وخرج الفيلم بعبرة تناسب تلك الفترة، وهي أن كرامة المرأة وأمنها لن يتحقق إلا من خلال رجل تستند إلى ساعده، وأن المجتمع لن يرحم إمرأة تقف بلا رجل، خاصة لو كانت جميلة.
الاخراج والانتاج والتصوير وحتى الموسيقى في الفيلم الإيطالي كانت تشارك في نجاح الفيلم، كل شيئ تم بدراسة وتقنية ومهنية عالية لذلك خرج يستحق الأوسكار، ووجود الطفل في الفيلم كان له أبلغ الأثر، فهو يؤكد أن الجيل الجديد الذي لم تلوثه الدنيا بعد هو الذي سيقوم برد إعتبار إيطاليا . فهل قدم quot;حلاوة روحquot; نفس الرسالة؟ لقد اعتمد الفيلم المصري على إثارة الغرائز بشكل صادم، بحيث أصبح طبقا من البهارات فقط، فلم يقدم أي وجبة متكاملة بل كان كل همه مشاهد العري الفاضحة التي مع إستمرار الفيلم تفقد حتى معناها، فصار كل التركيز على جسد البطلة، وأصبحت كل العبارات سوقية تعف الأذن عن سماعها، وسقط المشاهد مع اللقطات في بركة من الماء الآسن، وبينما الفيلم الإيطالي يصور المجتمع وقت الحرب ويحاول أن يعطي صورة واقعية قوية عما يحدث بين الجدران وفوق الأرصفة، ليصبح ورقة من دفتر مذكرات الوطن بعدما تضع الحرب أوزارها، كان الفيلم المصري يقدم صورة مشوهة للمجتمع المصري على اعتبار أن كل السيدات عاهرات وكل الرجال مشبوبي الغريزة أو قوادين، والأطفال مشاريع حيوانات، هذه هي مصر في نظر من قدم الفيلم.
وفي فترة حساسة من عمر وطننا العربي، فترة تحاك فيها المؤامرات ويتعرض الوطن لقنبلة مدمرة اسمها الارهاب، في ظل فوضى تعم بعض البلاد وقلق يغرق بعضها، وترقب تسبح فيه أخرى، يتم عرض هذا الفيلم في جميع الدول العربية في وقت واحد! ما المقصود بهذا؟ إلهاء العرب عن قضيتهم المصيرية؟ تشويه وجه مصر في نظر باقي الدول العربية حتى تفقد مكانتها في هذه الفترة الحاسمة فيسقط الأخ الكبير وينفرط العقد؟ تشجيع الممارسات المتدنية في ظل أوضاع أمنية أرهقها تعقب الارهاب في مصر؟ تحريض على تفشي الرذيلة وحث الصغار على ممارستها حتى يتفسخ المجتمع تماما؟.
ولا يتعلل أحد بأن الفضائيات تقدم ما لا يليق في أحيان كثيرة، فالمشاهد عندما يستمع إلى ضيف يحافظ على المسافة النفسية التي تفصله عنه، أما عندما يذوب في أحداث فيلم سينمائي فهو يتوحد معه، فالقائمون على فن السينما يعلمون جيدا أنها سلاح لا يقل فتكا عن أسلحة الدمار، وأنها بافلامها يمكنها أن تبني ويمكنها أن تدمر.
السينما هي من جعلت اللسان المصري مألوفا لدى كل العرب، المسلسلات التركية المدبلجة بالهجة السورية هي من جعلت اللسان السوري مفهوما لدى كثيرين، الأفلام التركية في السنوات القليلة الماضية هي السبب الأكبر في شهرة بلاد مثل استنبول وأزمير، السينما كانت سلاحا مهما جدا في حشد الرأي العام وجعله يقبل بعمل المرأة بالأفلام الناجحة التي قدمتها بعد ثورة 1952
فالسينما صناعة كبيرة وليست مجرد فن.
لذلك وبعد عرض الفيلم بدأت الاعتراضات، أقواها البيان الذي صدر عن المجلس القومي للطفولة والامومة والذي طالب فيه المجلس بوقف عرض الفيلم حيث رأى أنه يشكل خطورة على الأطفال ويعرض قيمهم للخطر، وأن استغلال الطفل بهذا الشكل يعد مخالفة صريحة لقانون الطفل رقم 126 لعام 2008، بل أن المجلس أعلن إعتراضه لما يبثه الفيلم من سموم لا تطال الطفل فقط بل وتسيئ بشدة للمرأة المصرية.
لذلك تعجبت بشدة عندما هاجم السيناريست بيان المجلس قائلا أن المجلس ترك مشكلات الأطفال في الشوارع وتفرغ لشجب الأعمال الفنية.. وراح يدافع عن حرية الابداع... أي إبداع هنا حتى نحفظ له حريته؟ لو كان في الفيلم إبداع لدافعنا عنه . ثم يضيف أن ما جاء بالفيلم إنما هو عرض للحقيقة حتى يراها الناس ويعالجونها، هل هذه هي حقيقة الحارة المصرية؟ هل كل نسائنا عاهرات ورجالنا قوادين؟ وهل السينما تعرض الطالح ولا تقدم نموذجا واحدا صالحا، ثم يأتي ويبرر فيقول أن الفيلم لم يتم فهمه جيدا، فهو بالبطلة إنما يقصد مصر التي حاول الجميع إغتصابها، لكن الجيل الجديد ممثلا في الطفل الذي يحلم بوصالها، هو من سينقذها، ومن قال لك أن مصر عاهرة تبيع جسدها مثل بطلة فيلمك؟ إنك بهذا التشبيه لابد أن يقاضيك كل مصري عنده نخوة.
ثم ما قول السيناريست فيما صرح به مصدر من الرقابة بأن المخرج أضاف مشاهدا لم يتم الترخيص بها؟ وأنه أعاد مشاهدا استبعدتها الرقابة؟ هل وافقت الرقابة على مشهد تعبئة الأطفال للمولوتوف دفاعا عن البطلة؟.
هل لم يصل للسيناريست الذي يدافع بكل عزم عن فيلمه أن القانون يقف رافضا لما تم عرضه بالفيلم؟ فالقانون يؤكد quot; لا يجوز الترخيص بعرض أو إنتاج أو الاعلان عن أي مصنف إذا تضمن عدة أمورquot; من هذه الامور - حتى لا نطيل -: اظهار الجسم البشري عاريا على نحو يتعارض مع المألوف وتقاليد المجتمع، أو إبراز الزوايا التي تفصل أعضاء الجسم أو تؤكدها بشكل فاضح. من هذه الأمور أيضا استخدام عبارات وإشارات ومعان بذيئة أو تنبو عن الذوق العام أو تتسم بالسوقية.

كان لابد أن يمنع هذا الفيلم من البداية، وكان لابد أن يتدخل المسئولون لإنهاء هذه المهزلة، وقرار السيد رئيس الوزراء جاء في وقته تماما، ومن حق رئيس الحكومة أن يفعل ذلك لاسيما أن مصر تمر بفترة حرجة جدا لا مجال فيها لترك الأمور حتى تتفاقم، إنها مسألة أمن دولة،التحريض على التحرش يدخل تحت بند أمن الدولة، اظهار المجتمع بصورة مشوهة مخالفة للحقيقة إسقاط للدولة وتعريض أمنها للخطر، اشعال الفتن بين مؤيد ومعارض في هذه الظروف يهدد الأمن العام، نحن في حالة حرب، نحن دولة تحاول أن تخرج من عقبات كثيرة تعترضها، وهو رئيس الحكومة، ومن حقه وواجبه قانونا أن يدافع عن أمن الدولة في هذه الظروف.
لكن السؤال الآن، هل سنعاقب الفيلم ونترك من سمح به رغم أنه خرق جميع القوانين التي تسمح له بالعرض؟ هل منع العرض لحين عرضه مرة أخرى على الرقابة يكفي؟ ألم تكن هي نفسها الرقابة التي سمحت به؟ فهل ستناقض نفسها؟ أم تسمح مرة أخرى بعرضه رغم كل ما يحتويه من عوار؟ واذا كانت بالفعل لم تسمح وتم اضافة ما رفضته، فماذا سيكون العقاب؟ ليتنا ندرك جيدا أن السينما ليست مجرد فيلم يتم عرضه، إنها دفتر مذكرات الوطن الذي تعود إليه الأجيال في التأريخ لفتراته، خاصة هذه الفترة الحرجة التي لابد أن نستيقظ فيها جيدا لأنها...لأنها الفرصة الأخيرة.

كاتبة وصحفية مصرية