الدراما التي ثبّتت الرئيس الجزائري على الكرسي، وإن كان مُتحرّكا...

لم يكن من الصدفة أن تبدأ مأساة غرداية أو مأساة الأندلس كما سماها أحد المتابعين، في يوم السابع عشر من ديسمبر وتنتهي في السابع عشر من أبريل موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر، يوم السابع عشر له دلالة رمزية، بأن الحريق الذي اندلع في أهدإ منطقة في الجزائر حتى إبان فترة الاستعمار الفرنسي، لا يمكنه أن ينطفئ سوى بتتويج الرئيس الحالي بعهدة رئاسية أبدية.
middot; سمفونية مالكي-إباضي، على إيقاع سني- شيعي، مسلم-مسيحي:
استغل النظام الفوضى وحالة عدم الاستقرار التي تسود معظم دول المنطقة التي شهدت انتفاضات شعبية أدت إلى سقوط أنظمتها أو إلى تغيير الواجهة، وعمِل على مدى أشهر لتخويف كافة شرائح الشعب من أن سقوطه، سيؤدي إلى الفوضى والطوفان.
وإن كان الشعب يتابع عبر الفضائيات بقلق، ما يجري من تناحر عرقي وطائفي في سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن، إلا أن النظام أراد من الفتنة التي اختلقها في غرداية بين المتساكنين أن يبعث برسالة واضحة من الداخل بأن ما بدأ في تلك المنطقة الهادئة والمسالمة - والتي كانت منطقة جذب للسواح والباحثين من كل أصقاع العالم- ما بدأ من حريق يمكنه أن يمتد إلى كل ربوع الجزائر.
middot; لماذا غرداية؟ ولماذا اختيار أقلية مُسالمة؟
النظام كان يخشى من التبعات، ومن عدم التحكم في الفوضى إلى ما بعد الانتخابات. على سبيل المثال، أحداث شهر أكتوبر من عام خمسة وثمانين، بدأتها أطراف في السلطة للتخلص من خصومها داخل النظام، إلا أن اتساع رقعة الاحتجاجات أدت بعكس رغبة من أشعلوها، إلى الدخول في مرحلة التعددية السياسية، ثم إلى الانتخابات الحرة التي أفرزت فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية لتدخل الجزائر في سنوات الدم بعد وقف المسار الانتخابي.
فاختيار غرداية لم يكن اعتباطيا، والنظام يعلم جيدا بأن الأقلية الإباضية ستمتص الضربات تلو الضربات ولن يتعدى رد فعلها، الدفاع عن النفس، وفي أكثر الحالات التنديد والاستنكار. وهنا يكون النظام قد ضمن عودة الهدوء والاستقرار بمجرد قرار. على عكس منطقة القبائل التي لم تهدأ إلى اليوم بعد ما شهدته من تجاوزات للسلطة وقوات (الأمن) في حق الأمازيغ عام 2001
middot; أدوات الفتنة و أهداف الهجمات:
ملثمون يحملون أسلحة بيضاء وأحيانا بنادق صيد، فرضوا سيطرة كاملة على المنطقة، يضربون ثم ينسحبون متى وأين شاؤوا، اختاروا أهدافهم بدقة، تمكنوا من تحريك الخصم رغم صبره ومسالمته، ليخلقوا حالة هيجان واحتقان، ساعدت على امتداد الأزمة من شهر ديسمبر إلى عشية الانتخابات الرئاسية، لتحقيق جميع الأهداف.
- الهجمات استهدفت في مراحلها الأولى : التراث والرموز الدينية للأقلية الإباضية، فكانت هجماتٍ مُنسقة وبحماية أفراد الشرطة.
على المقابر ونبشها، وعلى المقامات وهدمها، تلك الهجمات قادها منحرفون معروفون بتجارة المخدرات، ولم يكونوا ملثمين بل ظهروا علانية أمام كاميرات التصوير.
- صاحبتْ تلك الخطة حملةٌ دعائية قصوى في وسائل التواصل الاجتماعي بسبّ وشتم رموز المذهب الإباضي وتخوين قادة المنطقة ووصفهم بالعملاء والخونة الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي.
حملةُ التخوين والتعفين قادها صحافيٌ يعمل مراسلا للتلفزيون الرسمي في المنطقة! وكان يظهر بالصوت والصورة، بمعنى أنه كان يتلقى أوامر فوقية.
أما حملة شيطنة المذهب الإباضي فقادها (أحمد بن عيسى الشحمة) يعمل لدى هيئة رسمية وهي وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وكان أيضا يظهر بالصوت والصورة.
- المرحلة الثانية من الهجمات: ولأن الخطة الأولى لم تحرك كل أطياف المجتمع وخصوصا الطبقة الوسطى، فقد تم الإيعاز بالمساس بما يمكن أن يستفز تلك الطبقة، ألا وهو مصدر الرزق، فشهد شهرا فبراير ومارس أكبر عمليات الحرق التي استهدفت المحال التجارية والمعامل والورشات الصناعية، ما أدى إلى شل معظم شرائح المجتمع كلية، وانزوائها للدفاع عن المساكن، إلا أن المخطط لم يكتمل بعد، وسرعان ما بدأت عمليات الحرق وتهجير السكان وكتابة عبارات (إرحل) على الجدران.
ثم اتسعت رقعة الجرائم إلى حرق المستثمرات الفلاحية بالبنزين، وردم الآبار بالإسمنت المسلح، وقتل الحيوانات أو حرقها.
- النظام وعملية التحكم في الفوضى:
عشرات الآلاف من عناصر قوات الشرطة والدرك و المخابرات، أُرسلت إلى المنطقة للإيحاء بأن الدولة عازمة على وقف الفتنة، إلا أن الحقيقة على الأرض أن تلك القوات لم تتلق أوامر صارمة لإيقاف الجرائم بل عملت فقط على التحكم في مستوى العنف، بحيث تتدخل قوات الدرك بعد أن ينتهي المجرمون من عملياتهم بحماية قوات الشرطة، وذلك تفاديا من أن يصل العنف إلى مستوى لا تريده السلطة، وكذلك لإيهام الضحية بأن هناك تمظهر للمؤسسات الأمنية للدولة، وإعطائه مدة زمنية، لالتقاط أنفاسه والاستعداد للضربة القادمة، التي دائما ما تأتي في حيٍّ أو منطقة أخرى بعيدة.
وهكذا فإن عمليات الكرّ والفر لاتستمر في منطقة واحدة وإنما يتم توزيعها على مناطق واسعة من القرى الست في وادي ميزاب، لإحداث أكبر قدر من الصدمة على الصعيد المحلي والوطني.
- عمليات القتل والتنكيل:
خلال الأشهر الأربعة من الأزمة تم اغتيال سبعة شباب إباضيين ndash; في القرارة، غرداية وبريان- بعضهم تم نحرُه بالسكاكين أمام الكاميرات أوبالرجم بالحجارة والآخرون فتم اغتيالهم ببنادق صيد. وعندما تصاعدت وتيرة القتل تدخلت عناصر الشرطة لإحداث الصدمة في الأحياء التي تُصدّر الملثمين المُكلفين بالمهمة دون دراية، ومن أبرزها حيّ الحاج مسعود أو مكسيكو (سُمي كذلك تيمّنا بشوارع المخدرات في المكسيك)، فقتلت قوات التدخل الخاص ثلاثة شبان، لإحداث الصدمة داخل الأدوات التي تستعملها السلطة في رفع وتيرة العنف. وهكذا فقد تم إيصال الرسالة بأن هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها وهي الإمعان في القتل، وسرعان مافهم هؤلاء الرسالة، وتطوعوا لحراسة مقر الشرطة المركزي في غرداية والتقطوا صورا أمام المقر وبثوها عبر صفحات الفايسبوك ودعوا الشباب إلى التهدئة وعدم الدخول في مناوشات مع الشرطة حينما تطلب منهم التراجع.
وفيما تم اتهام الإباضية بقتل الشبان الثلاثة سرعان ما تراجعت تلك الاتهامات لأن الإباضية لا يمكنهم الدخول إلى مكسيكو وهي منطقة محظورة حتى على قوات الأمن في الأيام العادية، ولم تستطع أي هيئة توجيه اتهامات القتل إلى الشرطة صراحة لأنها هي نفس الشرطة التي تحمي الملثمين في مهامهم. وهذا موثق بعشرات الفيديوهات ووثائق المنظمات الحقوقية والمحامين. (الشرطة فتحت تحقيقا لمعرفة الجناة، لكن التحقيق لن يخرج إلى العلن أبدا)
- الإعلام والمهمة القذرة:
فيما كان مراسله في المنطقة يمارس التحريض والدعوة إلى العنف، لم يغطّ التلفزيون الرسمي ما حدث في غرداية، إلا بعد أن أصبحت تلك الأحداث عنوانا في التلفزيونات العربية و العالمية وخبرا يملأ الصفحات الأولى من الجرائد الدولية.
تلفزيون النهار الحليف الأقرب للسلطة تولى تغطية الأحداث على المباشر، لكن من أين؟ من حي زقاق أو حارة اليهود، نقطة البيع الأولى للمخدرات في غرداية، وهو حي اشتهر منذ الاستقلال ببيوت الدعارة وعُرف في الإعلام باسم حي المجاهدين. وهو الحي الذي كان منطلقا للمجرمين الذي دنسوا ونبشوا مقبرة ndash;سالم أوعيسى- المحاذية للحي.
وكما كان متوقعا فإن تلفزيون النهار تبنى أدوات السلطة في المنطقة ونقل وجهة نظرها وبالمقابل فقد غطت الجرائد ndash;الخاصة- تلك الأحداث وتلقت أوامر فوقية بممارسة دعاية التخويف والترهيب، وبأن الناشط الأمازيغي المقيم بفرنسا فرحات مهنا، و المخابرات المغربية وقطر وتركيا، والمخابرات المركزية الأمريكية وفرنسا ووو، كلها وراء مايحدث في غرداية.
ورغم النداءات المتكررة التي وجهتها الهيئات العُرفية ولجنة التنسيق والمتابعة، للتهدئة وإلى رفع الظلم عن أبناء المنطقة، إلا أن الجرائد مجتمعة تمادت في نقل صور للعلم الأمازيغي فوق سطح أحد المنازل في المنطقة ونداء وجهه الناشط كمال الدين فخار إلى الهيئات الدولية للتدخل، الجرائد نقلت هذين الخبرين على مدار أيام وأسابيع وقالت إن الذين أشعلوا الفتنة في غرداية حملو علم-الانفصال- ودعوا الأمم المتحدة إلى التدخل.
نفس الجرائد، وفي نُسخها عشية الانتخابات الرئاسية تحدثت عن محرضين ( الأدوات) من المنطقة وعن صفحاتهم في الفايسبوك، وذلك بعد أن تم رفع الغطاء السياسي عنهم.
middot; الفاتورة الباهظة سيدفعها السكان المتضررون:
في الأشهر الأربعة لأحداث غرداية تم نهب وحرق المئات من المحال التجارية والمنازل والأراضي الزراعية ونتيجة لتلك الحملة الممنهجة فقدت المئات من العائلات مساكنها ونزحت إلى المدارس والثانويات فاحتلتها، أو لجأت إلى أقاربها، كما فقد الآلاف وظائفهم في القطاع الخاص وقدرت الخسائر بنحو نصف مليار دولار، ولا يمكن لأي عاقل بأن ينتظر التعويضات من النظام الذي لم يعوض حتى الآن السكان على ما فقدوه في الفيضانات التي اجتاحت المنطقة عام 2008
middot; فرق تسُد، خوّفْ تحكُم:
السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المُتوّج، زار المنطقة يوما قبل الانتخابات (جريدة الوطن الناطقة بالفرنسية، نسخة يوم 18-04-2004) وطالب أعيان الإباضية بالتصويت لشقيقه لأن من اصطلح عليهم في هذه الأزمة بالعرب المالكية سيصوتون لخصمه علي بن فليس، وبالمقابل زار السعيد أعيان المالكية وطالبهم بالتصويت لشقيقه لأن الإباضية سيصوتون لعلي بن فليس.
وفي خضم الأزمة، زار المنطقةَ عبد المالك سلال رئيس الحكومة السابق وأحد أعضاء حملة بوتفليقة الانتخابية، وخاطب السكان بالفم المليان: نحن نعلم جيدا حجم المأساة التي تعيشونها، نعدكم بأن تتوقف بعد الانتخابات.
وتحقق وعد النظام، في ليلة السابع عشر من أبريل، اختفى الملثمون من جميع الأحياء، واختفت صفحات التحريض على الإباضية من صفحات الفايسبوك، وانتشر الجيش على مشارف المدينة.
في الصباح، امتلأت الشوارع بالمارة، وأصبح الإباضية-الأمازيغ يتجولون مع عائلاتهم في الأحياء التي كانت محظورة عليهم، ودخل عرب المنطقة إلى أحياء خصومهم بالأمس، وتمكن الجميع من التصويت لصالح المنقذ بوتفليقة، خصوصا وأن المسؤولين المحليين طالبوهم بإحضار بطاقة الانتخاب مختومة بتاريخ السابع عشر من أبريل، إن أرادوا التعويض عن نهب وحرق ممتلكاتهم.
هل انتهى الكابوس حقا؟
إن ما شهدته غرداية، أحدث شرخا كبيرا بين مكونات المجتمع الجزائري، وبين الرّعية والوالي ndash;بمعنى نظري: بين المواطن والدولة- وأدخل المنطقة التي كانت تُحسد على غناها واستقرارها إلى مستوى تحت خط الفقر، والفقر يولّد الجهل، الانحراف، وكل الآفات الاجتماعية وعلى رأسها الإرهاب.
ستكبر الأجيال وتتساءل، لماذا قتلتم والدي؟ لماذا فقأتم عينيه؟ لماذا طعنتموه في نخاعه الشوكي وأقعدتموه على كرسي متحرك... وسنرد عليهم:
إنها مأساة سبّبها كان على الكرسي المتحرك.