يبدو أنه من غير الممكن،في الفضاء الثقافي المتأثر بالمسألة الإسلامية،الحديث عن إسلام واحد،و إنما عن إسلامات عديدة، هي في الواقع تالية على فهم الجماعات المتباين لتحديد النمط الإيماني والفقهي للإسلام ولأشكال الحق والحقيقة المترتبة على ذلك، ولا شك،أن بين هذه التصورات المختلفة عن الإسلام تقاطعات عديدة، إلا انه قد تتجاوز مساحة التناقضات والاختلافات بينها تلك التي تحتلها التشابهات،وهكذا ووفقا لمستويات مختلفة من التقسيم،يمكن الحديث عن الإسلام السني والإسلام الشيعي وإسلامات المذاهب الأخرى، كما يمكن الحديث عن إسلام شرق آسيوي وآخر عربي وثالث تركي.أو إسلام وهابي وسلفي وأشعري.. الخ. المؤشر الذي يبدو ذا صدقية بمراقبة هذه التلوينات الإسلامية واختلافها بحسب نسبها،أنها تأتي جميعها كمحصلة للتشكيل الإنساني الاجتماعي للوعي الديني، وأن تعالي الأخير عن التأثر بالسياق السياسي والثقافي المحلَي لأصحابه يصبح أمرا مشكوكا فيه أكثر فأكثر.

و إذا كان ملحا تفحص كيف تختلف تفاعلات هذه التشكيلات الإسلامية مع الأوضاع الاجتماعية/السياسية لأصحابها بحيث يتكشف أكثر زيف تنزهها الروحي و يتأكد انخراطها في رهانات الهيمنة و الصراع على المصالح كما كان حالها في التاريخ، فإنه لا يوجد اليوم،خير من مراقبة البيئة السورية بما تشهده من طفرة تحول وتفاعل غير مسبوق لعناصرها التي يغلب عليها تنوع وتعارض في تعيين الحقيقة الإسلامية و العلاقة معها. ففي حين أن تقسيمات من قبيل،إسلام المشايخ،إسلام الطوائف، الإسلام السياسي والإسلام الجهادي التكفيري،تبدو الأكثر سهولة ودلالة في رصد علاقة الديني بالمشهد الحاصل في سورية لجهة التفاعل الصاخب مع حقلها الاجتماعي.فإنه يمكن في سياق ذلك تعيين العديد من التقاطعات والتنافرات بين تلك التقسيمات.المتقاطع بينها أنها كانت،جميعها،فاعلة ومتفاعلة بعمق مع الوضع الثوري الذي يعيشه هذه البلد منذ أكثر من ثلاث سنوات،أما المتنافر المختلف فيتبدى في تباين نوع وجهة هذه التفاعلات وفي تناقضها الحاد في الكثير من الأحيان.ففي الوقت الذي وقف إسلام المشايخ الرسمي مع نظام الاستبداد في سورية،وأفاد الأخير من إسلام الطوائف وتعارضاته بدرجة استثنائية،ألقى الإسلام السياسي بشقيه الاخواني والجهادي التكفيري بثقله ضد نظام بشار الأسد ووقف بالمعنى الموضوعي إلى جهة التغيير في سورية..!. إلا أن الأكيد والتقاطع الأهم،هو أن هذه الأشكال/التقسيمات الإسلامية الفاعلة في الوضع السوري اليوم، جميعها،سواء كانت مع التغيير أو ضده،لم تكن لتنحاز إلى دولة حديثة محايدة إزاء الموقف الديني لمكوناتها،كما أنها تكاد تتفق جميعها،مع اختلاف ملموس، إلا انه لا يرقى إلى درجة الاستثناء في حالة الإخوان المسلمين السوريين،على استعدائها للديمقراطية بالمعنى الجوهري والشامل للكلمة في سورية.

المثير في الخلاصة أعلاه، أن كل التنويعات على الإسلام المتفاعلة مع الحدث السوري،رغم أنها جميعا تدعي الإسلام الصحيح،النقي،المتنزه والمتعالي،إلا أنها تبدو منسجمة معا في عدائها المستحكم مع القيم الحديثة التي تسيدت المنظومة الأخلاقية الانسانية واستقرت فيها، قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأخلاقيات العيش المشترك والتسامح والاعتراف بالآخر،الأمر الذي يؤشر بقوة على أن الأشكال التي تنسب نفسها إلى الإسلام و القراءات المتباينة له،هي في الحقيقة صور قروسطية عنه،تشكلت في الإطار المعرفي للقرون الوسطى،و هي غريبة عن النظام المعرفي الذي يميز العالم الحديث وعن ذراه القيمية والأخلاقية،صور كونها بعض الأئمة المسلمين منذ ما يزيد عن الألف عام،واعتقدوا آنذاك بتطابقها وتمثيلها للإسلام الروحي والسياسي في تجربة الوحي و النبي (ص)،ثم ما لبث أن أخذ هذا الاعتقاد يتحول إلى دوغما ساكنة غير قابل للمراجعة أو للتشكيك بصحته.والحال أن الإسلام،على اختلاف نسبه وصوره،كان نتاجا لعملية تأويل النصوص الإسلامية لا سيما القران الكريم،تمت تحت نوعين من الضغوط، ضغوط سياسية لها علاقة بالصراع على السلطة والهيمنة في التاريخ الإسلامي،وأخرى معرفية لها علاقة بالأدوات اللغوية والمنهجية المتوفرة آنذاك. وأن انخراط الديني في الدنيوي،وتأثر المقدسبالمدنس،لم يتوقف عبر كل المراحل التاريخية التي تلت مرحلة الإسلام التأسيسية،الأمر الذي تكفل بإنتاج تصورات مختلفة ومتصارعة عن الإسلام،هي في مجموعها غريبة عن روحه ورهاناته المعنية بتطوير التجربة البشرية نوعيا نحو الأفضل.وأن أنسب ما يقال عن عمليات التأويل تلك أنها ربما كانت تناسب عصرها آنذاك،عصرها فقط.

إن الإسلام الصحيح الذي يحتاجه المسلمون ومن يعيشون إلى جانبهم،لا سيما في سورية وسواها من الدول التي تحوي على تنوعات إسلامية شديدة التباين، هو الإسلام المتصالح مع ثقافة حقوق الإنسان،الذي يعلي من شأن البشري،من آدميته وحريته وكرامته،و يناهض كل قمع يستهدفه.هذا هو الوجه الثوري الذي يجب على المسلمين الكشف عنه في دينهم.أما الصور المختلفة عنه،والمتبدية كاسلامات متعارضة،تتفاعل فيما بينها على نحو كارثي،كما يحدث الآن في سورية مع إسلام داعش والنصرة والتنظيمات المتشددة، مع الإسلام السياسي وإسلام العمامات والطوائف،فها هي تكرس نفسها كأرضية توفر القابلية المعرفية لتبرير القتل وانتهاك آدمية الإنسان وتغطية قمع النظام السوري لمجتمعه ومنحة أهم العوامل التي تدافع عن بقائه و إعاقة تأسيس مستقبل ديمقراطي بالمعنى الواسع للكلمة،وقد حان الخروج عليها والقطع معها، و لعل الثورة السورية هي المخبر التاريخي لتحقيق ذلك.

عضو رابطة الصحفيين السوريين