منذ أيام الثورة الأولى وبداية تنفيذ المشروع النهضوي الكوردستاني حددت القيادات الكوردية مجموعة أخلاقيات وثوابت للتعاطي مع المجتمع الكوردستاني بكل أطيافه ومكوناته القبلية والدينية والاجتماعية، ومع العدو المتمثل بقطعات الجيش والأجهزة الخاصة التي تحارب فصائل الثوار البيشمه ركه والتنظيمات الحزبية في المدن والقرى، ولعل ابرز تلك الأخلاقيات والثوابت ما أكده الزعيم الكوردي الكبير مصطفى البارزاني من إن العدو الحقيقي ليس الجيش أو العرب بل النظام الدكتاتوري الحاكم، وعليه فان أسرى القوات المسلحة ضيوفا وليسوا أعداء، وكان يوصي بهم كثيرا ويحسن التعامل معهم حتى قرر الكثير منهم البقاء مع الثوار والاشتراك معهم في كثير من العمليات.

ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حيث تمتع الكوردستانيون بنوع من الاستقلال الذاتي أتاح لهم اختيار الديمقراطية أسلوبا في إدارة مناطقهم المحررة وتشكيل مؤسساتهم الدستورية وفي مقدمتها البرلمان والحكومة الإقليمية التي أدارت الإقليم بشكل ناجح رغم ما اعترضها في معظم كابيناتها من تحديات كبيرة داخلية وخارجية.

ولعل أهم ما ميز نقاء المشروع النهضوي لشعب كوردستان هو تعامله مع كثير من المفردات التي منحته مصداقية عليا لدى الأهالي والمراقبين في كوردستان والعراق عامة، وفي مقدمة ذلك تحوله إلى ملاذ آمن لكل العراقيين المعارضين للدكتاتورية سواء اتفقوا أو اختلفوا مع قيادة الإقليم، إضافة إلى حمايتهم لأنابيب البترول التي كانت وما تزال تمر من الأراضي الكردستانية المحررة، وطيلة ثلاثة عقود لم تتعرض فيها إلى أي خدش بينما لم تفلت ذات الأنابيب من الموصل وحتى البصرة من عمليات السرقة والنهب والتخريب، حتى إن البترول يتوقف لأشهر كاملة من اجل تصليح ما خربته المجاميع المسلحة وغير المسلحة.

وفي قضية المياه التي روج لها العنصريون وخاصة تلك الأكذوبة التي حاول البعض إشاعتها من أن الكورد يحبسون مياه دجلة في سد دوكان ودربني خان، فقد أكدت مجريات الأمور أنها افتراءات سخيفة يراد بها كسب مجاميع من الأصوات الخائبة للحصول على مقاعد في برلمان الامتيازات والقومسيونات، حيث أن دوكان ودربندي خان وغيرهما تحت سيطرة الإقليم منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي ولم يحصل شي من هذه الثقافة البائسة، فهي هنا تغطية على جريمة قطع المياه من السدود والسدات في غرب البلاد سواء من الحكومة التي تريد إغراق المدن والبلدات بقصفها لتلك السدود أو من قبل المسلحين؟

أن المحن والظروف الصعبة هي التي تظهر حقيقة ومعادن البشر كما يقولون، ففي أكثر المواقف حدة في الصراع بل وحتى في أيام الانتصار وتقهقر العدو، كان الكوردستانيون يذعنون إلى أي بادرة سلمية لحل القضية الكوردية، كما حصل في الحادي عشر من آذار 1970م، وكان حينها الجيش العراقي قاب قوسين أو ادني من الانهيار الكلي، إلا إن القيم الأخلاقية العليا التي تنتهجها الثورة في كوردستان تأبى استغلال الفرص لتنفيذ مشاريعها، فكانت تذعن للسلام والحوار للوصول إلى حلول أولية للمشكلة، وقد حصل هذا في الستينات مع عبدالرحمن البزاز ومع البكر في آذار 1970م الذي تمخض عن اتفاقية آذار التي اعترفت لأول مرة بحق الكورد في الاستقلال الذاتي.

ولكي لا نوغل في التاريخ علينا أن نتوقف عند مجريات ما يحصل اليوم في غرب البلاد، حيث استحوذت مجاميع من المسلحين على بضع سدود وسدات على نهري دجلة والفرات استخدمتهما بشكل غير متوقع للضغط على حكومة المالكي وقواته المسلحة التي تحاصر بعض البلدات الواقعة تحت سيطرة اولئك المسلحين في سابقة لا مثيل لها الا أيام صدام حسين حينما جفف الاهوار لإبادة ثوار المعارضة في حينها.

لقد كانت ابرز أخلاقيات الثورة في كوردستان واهم أسباب نجاحها هي كيفية التعامل مع كثير من المفردات، وفي مقدمتها عدم استخدام أي وسيلة إرهابية مهما كان العدو، وبالذات أساليب الاغتيالات التي تمرست بتا أجهزة البعض وكثير من مخابرات الأنظمة الدكتاتورية، فهي محرمة تماما في نهج الثورة وأخلاقيات مشروع نهوض وكردستان التي حافظت على أنابيب النفط المارة من الأراضي التي تسيطر عليها قوات البيشمه ركة منذ مطلع التسعينيات وحتى يومنا هذا، حيث لم تصب بخدش أو عطل بأي شكل من الأشكال، فهي تحت حماية تلك الأخلاقيات كما كانت عقارات وممتلكات أزلام النظام السابق وعملائه مما يسمى هنا بالجحوش، والتي رفضت كوردستان وقيادتها الاستيلاء عليها من أي شخص مهما كان قبل الاتفاق مع أصحابها الشرعيين وخارج قوى التأثير والاستغلال، بما يجعل شعب كوردستان ومؤسسات الدولة فيه وأجيال شبيبته تفتخر بتاريخها وسلوكها وثقافتها وتعاطيها مع كثير من المفردات اليومية للحياة وصراعاتها سواء كانت مع العدو أو مع تناقضات الداخل التي نجحت في توظيفها إلى صور مدنية متحضرة للصراع بعد أن اكتوت بنيران الاحتراب، وهي اليوم تقدم هذا الناتج المبني على هذه الأسس الأخلاقية، وهي مصرة على تجاوز النقاط الداكنة هنا وهناك سواء في الإدارة أو في ملفات الفساد المالي.

[email protected]