لم يتعرف وحيد على اللون الأصفر إلا قبل موته بساعة أو أكثر بدقائق. لمح صفرة وجهه وهو يستلقي على فراشه لآخر مرة منهكا من الحياة كلها، زاهدا بها تماما وقد عرف معنى اللون الأصفر كأدق ما يكون! ليت الأمر انتهى عند هذا الحد، فقد رأى بوضوح أشد؛ صفرة ذلك النهار في ذلك اليوم البعيد الأليم الذي رغم إنه كان قبل خمسين عاما لكنه لا يزال يحفر في قلبه مثل دودة تستطيل مع الزمن. وتزداد معه وحشية وشراسة. بعضهم قال أن ذلك النهار كان أصفر اثر هبوب عاصفة غبار جاءت من جهة الصحراء، لكن أحمد يرى أن صفرته بسبب ما حدث قبل أيام منه! آنذاك بقدر ما كانت الطرقات والجدران حمراء؛ كانت الوجوه صفراء، غارت الدماء من الوجوه، وأختف في زاوية بعيدة من الوجود، وخارج أجساد الناس. كانت البيانات تتولى عبر التلفزيون من قادة الإنقلابيين بإعدام زعيم الحكومة التي أطيح بها مع الكثيرين من أعضائها وضباطها، أذاعوا بيانا يؤكد أنهم أعدموا قائد الحزب الذي كان يساند الحكومة، مع مجموعة من رفاقه بينهم أحمد صديقه منذ الطفولة والأقرب إلى قلبه! بكاه في سره بحرقة، وأدرك أنهم لن يسلموا جثمانه لأهله. صار وحيد اكثر خوفاً، رغم إنه لم يقرب السياسة ،سمع عن كثيرين اعتقلوا وقتلوا أما بالخطأ أو العجالة، أو لشك طفيف بعلاقة أو قرابة مع رجال العهد الذي سحق بالدبابات والطائرات والمارشات العسكرية خلال يومين من القتال الدموي في العاصمة! جمع هو وزوجته أطفالهما في زاوية من البيت وتناوبا رعايتهم. كانوا خائفين كدجاج تحوم فوقهم نسور أو ثعابين مجنحة! أمر بعدم الرد على التلفون خشية التورط بكلمة أو صلة عابرة. ظل طيف صديقه يحزنه وهو يطل عليه، كان يحبه رغم إنه لم يكن متعاطفا مع أفكاره! كان يرى إن نضاله العسير والخطر؛ ليس أكثر من سعي لاستبدال نفوذ دولة كبرى بنفوذ دولة كبرى أخرى، وكلهم الصاعدون والنازلون ينادون بمبادئ سينفذون عكسها لو جاءوا للحكم، وهذا يزيده قناعة بعزوفه عن
السياسة عملا أو كلاما! لكنه حزن لموت أحمد كثيرا، فهو إنسان طيب صادق وبأخلاق عالية، وله معه مواقف نبيلة جدا،لا ينساها له أبدا، وهذه أفكاره، وما استطاع أحد اقناعه بتغييرها أو تعديلها،وأخيرا مات من أجلها، كما هي!
ظهيرة ذلك النهار الأصفر طرق الباب، فانخلع قلبه، أمر زوجته واطفاله بالصمت فقطعوا أنفاسهم وذهب هو إلى الباب وقد صار يسمع وجيب قلبه يأتي من جهة الباب! وعند العتبة انعقد لسانه! إنه احمد نفسه! أهذا معقول؟ كيف خرج من القبر وجاءه الآن في هذا اليوم الأصفر الرهيب؟ رغم عتمة الجو يستطيع أن يرى ملامحه جيدا، إنه صديق عمره، واغلى أحبته بعد عائلته ، صحيح أنهما افترقا قبل أكثر من عشرين عاما لكنه ما يزال يتذكر ملامحه حتى ليكاد يعرف عدد شامات وتجاعيد وجهه الأسمر الوسيم! وقف حيد وسط فتحة الباب يسدها عليه، قال أحمد بنفس لهجته السابقة الودودة التي لا تخلو من نبرة أمر:
ـــ دعني أدخل، أنا أحمد، ألم تعرفني؟!
فسح له المجال ليقفا معا في الحديقة في ظل نخلة قصيرة وارفة السعف أخفتهما كخيمة عن الطريق.
ـــ دعني أدخل البيت بسرعة يا وحيد ،أنا في خطر!
ظل وحيد جامدا متحجرا ،صنماً يرتجف:
ـــ أي أحمد أنت؟ ما أعرفه أن أحمد قد مات
أماط اليشماغ عن بقيه وجهه:
ـــ لا تصدقهم، يا وحيد ماذا دهاك؟ هؤلاء الأوغاد، إنهم يكذبون يريدون تحطيم معنويات رفاقنا، أنا كما ترى؛ هربت منهم، كل ما أريده أن اقضي الليلة عندك، غدا لدي موعد مع الرفاق؛ سيهربونني خارج البلاد، ليلة واحدة فقط يا وحيد!
أخذ وحيد يتظاهر بفرك عينيه ومسحها ، إنه لا يرى جيدا، تذكر أحمد كل حيله ولعبه التي كنت تلازمه منذ طفولته:
ــــ ما أعرفه يا أخي ان أحمد قد مات
ولم يقل إنه أعدم، أمسك لسانه تماماً
ـــ كيف يا صديقي تكذبني؛ وتصدق هؤلاء القتلة الأنذال؟
كان وحيد يعرف ومن أعماقه ان هذا الذي أمامه هو أحمد، أعز أصدقائه لكنه لم يستطع أن يقول له إنه خائف على أطفاله الثلاثة، خائف من بيانهم الذي يقول وquot;أقتلوهم حيث ما ثقفتموهم quot;،وأنهم سيعدمون من يؤويهم، تسلح بجملة بديهية :
ـــ أحمد ميت ، وهل لميت أن يعود؟
أدرك أحمد بفطنته أن وحيد يتظاهر أن هذا الذي أمامه هو رجل من السلطة الجديدة جاء يختبره، ومن هو ليرسل له الإنقلابيون رجلا يختبره؟ لكنه جعل من هذه الشيء التافه حجة ضده، راح ينظر إليه مندهشا، صحيح أنه خلال العشرين عاما الماضية قد شغلته السياسة عنه، لكنهما كانا يتقابلان بين فترة وأخرى كأعز صديقين. هم أحمد أن يرفع طرف ثوبه البدوي الذي تنكر به ، ويخرج له فخذه الذي يحمل ندوبا من جرح قديم يعرفه جيدا! في صباهما رأى وحيد يغرق، القى نفسه في النهر، وأنقذه ولكن أسلاكاً غائرة في الماء انغرزت في فخذه وعانى أثرها من تسمم كاد يودي بحياته، اكتفى بأن نظر إليه طويلا، والدموع تملأ مآقيه ، هز رأسه ،ومضى بصمت، منذ خمسين عاما وهو يرى نظرته، تنغرس في روحه كنصل! في نفس الليلة اذاعوا بيانا آخر، قالوا إنهم القوا القبض على احمد في الشارع وأعدموه على الفور ، وتجاهلوا بيانهم السابق! الآن وقد أدرك صفرة اللون، يتساءل ماذا لو كانوا قتلوني وقتلوا اطفالي وزوجتي معي؟ أيهما كان سيدمر حياتي أكثر؟ نظرته، أم دمهم؟ يتذكر إنه حين عاد من الباب سألته زوجته:
ـــ ماذا هناك؟
هز راسه واجما قائلا بصوت مرتعش:
ـــ لا شيء لا شيء!
واليوم بعد خمسين عاما، واللون الأصفر يدب في شجرة حياته كلها، وآخر ورقة منها تصفعها الريح، وتدفعها بعيدا، لا شيء، لا شيء أبدا!