لا يبذل اللبنانيون كثير عناء على مشارف كل انتخابات رئاسية لمعرفة هوية quot;فخامة الرئيسquot; المقبل، فوحده قائد الجيش المخول (وكما في كل مرة) لعب دور المنقذ والمخلّص، وكأن البلاد خلت من المدنيين.
لم يجد لبنان quot;الضئيلquot; بمساحته الجغرافية الكبير بأزماته المتشعبة، على مدار الأعوام الستة عشر الماضية quot;أصلحquot; من الجنرالات لحكمه، إذ إنه وعند انتهاء ولاية الرئيس الراحل إلياس الهراوي في العام 1998، استقر خيار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على قائد الجيش آنذاك إميل لحود، ليخلفه بعد ولايتين، الرئيس الحالي وقائد الجيش السابق ميشال سليمان، وها هو الجنرال الثالث جان قهوجي على أعتاب قصر بعبدا في ظل استبعاد خيار التمديد لسليمان بشكل نهائي.
ليس غريباً أو معيباً أن يصبح قائد الجيش رئيساً في حقبة حسّاسة ومحددة من تاريخ أي بلد كان، ولكن المعيب أن تصبح هذه الفترة الحسّاسة دائمة وأبدية، أي أن تكون قاعدة لا استثناء فيما العكس هو الصحيح.
المبررات التي يسوقها البعض بأن مجرد انتماء الرجل (قائد الجيش) لمؤسسة لا تتعاطى الشأن السياسي يخوّله تولي مقام الرئاسة الأولى، ليست كافية على الإطلاق، فمن غير المنطقي ألا يكون هناك سوى رجل واحد قادر على شغل هذا المنصب، وإن كان الأمر على هذا النحو فتلك طامة كبرى.
مفارقة غريبة، بينما تصارع الشعوب العربية للإطاحة بالأنظمة العسكرية، يسبح لبنان عكس التيار من خلال الهرولة للاتيان بجنرال إلى سدة الحكم... يا لها من مفارقة عجيبة!.
ولكن الأسوأ في كل ما يجري، هو إصرار كافة الأطراف على quot;حشرquot; المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية، رغم quot;تأكيداتquot; فريقي الثامن والرابع عشر من آذار المتواصلة على ضرورة عدم إقحام هذه المؤسسة في الصراعات، غير أن هذه quot;التأكيداتquot; لا تصمد طويلاً، ففي نهاية المطاف يتفق هؤلاء أنفسهم على تولي عسكري مقاليد السلطة، وهو تناقض فاضح يُفقد المؤسسة العسكرية حياديها وفق المفهوم والصيغة اللبنانية المعتلة.
هذا الواقع يعكس بلا شك التشوهات والاختلالات الكبيرة التي تعتري النظام والتركيبة اللبنانية برمتها، بدءاً من الملفات والتعيينات الصغيرة الخاصة بموظفي الفئة الأولى من مدراء عامين وسفراء وصولاً إلى تشكيل الحكومات الذي يستغرق أشهراً طويلة، ومسرحيات الانتخابات البرلمانية والنواب الذين لا يفقهون شيئاً في أصول المراقبة والتشريع، وليس انتهاء بانتظار الإملاءات والإيعازات الخارجية للتوافق على رؤساء مجلس النواب والوزراء ومن خلفهما رئيس الجمهورية.
أي جمهورية هي تلك العاجزة حتى عن تسمية شارع صغير في إحدى القرى النائية البعيدة من دون توافق واتفاق مسبق، أي جمهورية تلك التي يتبادل سياسيوها الاتهامات والشتائم في ساعات الصباح، ويسكرون ويعربدون معاً في ساعات الليل.
أي بلد هو ذاك الذي ينهش ساساته خبز الفقراء المعدمين، وquot;يمصونquot; دماء الطبقة الكادحة المسحوقة، ليدفع بدلات خيالية للنواب والوزراء والرؤساء، أي بلد هو ذاك الذي يلاحق ويسجن الشرفاء ويطلق يد اللصوص.
أي وطن هو ذاك الذي يدّعي العلمانية وينتظر قرار السلطات والمرجعيات الروحية في كل صغيرة وكبيرة، أي وطن هو ذاك الذي لم يحسم شعبه حتى الساعة الجدل بشأن هويته إن كانت عربية أو فنيقية أو خلاف ذلك.
أي بلد هو ذاك الذي يلعن مواطنوه ساساتهم في السر والعلن، ويهرولون قبل أن يجف حبر لعاناتهم إلى صناديق الاقتراع للتصويت بنعم للجوع والفساد والفقر والسرقة والمافيات وحبوب الكبتاغون وتكريس المحاصصة المذهبية والطائفية والمناطقية، أي بلد هو ذاك الذي يتحدث عن المدنية ويفضل العسكرية.
أي جمهورية هي تلك التي لا تعرف من الجمهورية إلا اسمها، ومن الديمقراطية إلا شكلها ومن المدنية والحداثة إلا التخلف والرجعية، أي بلد وأي دولة وأي وطن هو لبنان؟!
صحفي لبناني