المقاصد التي يستفاد منها بواسطة القصص الواردة في القرآن الكريم تكمن في ربط الأحداث الآنية التي نزلت بموجبها تلك القصص بأحداث مماثلة حصلت للأمم السابقة، وبذلك يحصل الاستدلال الذي يجمع أكثر من حالة لا تخرج نتائجها عن توافق الحالات المعارضة بين مواقف الرسل وبين أقوامهم، ومن هنا ذهب عدد من المفسرين إلى أن في علاج تلك الأحداث تسلية للنبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; أو بالأحرى هي تثبيت لفؤاده، حيث أن ذكر البراهين والحجج التي استخدمها الرسل مع أقوامهم يمكن أن يظهر منها السبب الذي يربط المسيرة اللاحقة بالمسيرة التي سبقتها، حتى تصبح الأهداف والمقاصد مشتركة بين جميع الأنبياء.

ولذلك فقد نرى أن القرآن الكريم يسرد القصص بمختلف الطرق وبوسائل متعددة حتى أن الناظر يظن أن القصة الواحدة قد تكررت في متفرقات القرآن الكريم، والحقيقة أن هذا التكرار يحمل كل مرة أكثر من نقلة نوعية يتطلبها مقتضى الحال الذي أصبح من أسباب نزول الآيات الحاملة للأحداث التي مر بها الرسل، إضافة إلى الوقائع التي أحاطت بأولئك الأقوام الذين تراوحت حالاتهم بين الإعفاء والاندراس وبين بقاء الآثار التي أصبحت شاهدة على أصحابها، ومن هنا خاطب الله تعالى نبيه بقوله: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) هود 100. وفي الآية مجموعة من المباحث أعرض لها:

المبحث الأول: ذكر في السياق الذي سبق الآية المبحوث عنها مجموعة من قصص الأنبياء وبعد الفراغ من تلك القصص قال تعالى: (ذلك من أنباء القرى) والمقصود بـ (ذلك) إشارة إلى القصص السابقة، حيث أن الكلام المتقضي يصبح في حكم البعيد فيشار إليه بـ (ذلك) وهذا كثير في القرآن كما وصف تعالى البقرة بقوله: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) البقرة 68. أي عوان بين الفارض والبكر وكذا في قوله: (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) مريم 34. وذلك بعد الحديث عنه.

فإن قيل: الذي ذكرته يتناول اسم الإشارة (ذلك) وهذا صحيح إلا أن القرآن استعمل (هذا) بنفس القاعدة كما في قوله: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب***هذا ما توعدون ليوم الحساب) ص 52-53. أقول: الأصل في الإشارة هو (ذا) فإذا أراد المتكلم أن يشير إلى الكلام المتقضي جاء بالكاف التي تفيد الخطاب وبإمكانه استعمال الهاء في حالة شد الانتباه ولهذا وجدت المقاربة بين الكاف والهاء لأن الأصل هو المخاطب، وإن اختلفت المصاديق فهذا من باب التوسع في اللغة، ألم تر إلى قوله تعالى: على لسان يوسف (عليه السلام) (ذلكما مما علمني ربي) يوسف 37. وفي الجمع قوله: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) التوبة 41. وهذا الجمع كثير في القرآن الكريم إلا أنه يكون ملازماً لقرينة التشديد.

المبحث الثاني: قيل: إن الفرق بين النبأ والخبر أن الأول: لا يكون للمخبَر فيه علم مسبق، أما الخبر فقد يكون للمخبَر به علم. وقيل: إن النبأ مايكون له شأن وهذا لا يتحصل في الخبر. وقيل: إن النبأ لا يحتمل الكذب أو الخطأ أما الخبر فقد يحتمل ذلك، وهذا مردود بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) الحجرات 6. والحقيقة: إن الخبر أعم من النبأ إلا أن النبأ يقتضي القرينة التي تحدد مصداقيته ونوعيته كما في قوله: (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين) النمل 22. وكذا قوله: (عم يتساءلون***عن النبأ العظيم) النبأ 1-2. أما عمومية الخبر: فيشهد لها قوله تعالى: (لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) القصص 29. وقريب منه.. النمل 7. والعموم يظهر في عدم علمه بنوع الخبر الذي شفعه باحتمالية الجذوة في القصص والشهاب في النمل.

المبحث الثالث: القائم من القرى: هو الذي لا يزال له أثر، أما الحصيد فهو الذي لم يبق له أثر، وهذا التعبير مأخوذ من تشبيه الزرع لأن القائم والحصيد يستعمل في الزرع عند التفريق بين ما بقي منه وبين ما فنى، كما في قول الشاعر:

والناس في قسم المنية بينهم......كالزرع منه قائم وحصيد.

المبحث الرابع: أهم الأهداف التي يمكن الحصول عليها من القصص في القرآن الكريم هو تثبيت فؤاد النبي كما مر عليك في مقدمة المقال وهذا ظاهر في قوله تعالى: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) هود 120. وعلى الرغم من كثرة هذه القصص وتفرقها في القرآن الكريم إلا أنها لم تكرر باسلوب مماثل وإن كان ظاهرها يلوح بهذا، حيث أن هذا التكرار يشير في كل مرة إلى صورة مختلفة تنسجم مع سياق الآيات التي تعالج الموقف الذي نزلت لأجله، ومن جهة أخرى يُظهر هذا التكرار عدة جوانب آنية ومستقبلية تتمثل في الدعوة والإرشاد وكذلك في العبرة التي يستلزمها الواقع المعاش بأبعاده المختلفة، إضافة إلى الجوانب البلاغية والنفسية والتأريخية وغيرها، ومن هنا يظهر الفرق في هذا التكرار الذي ينقلنا كل مرة إلى جانب من جوانب المقاصد القرآنية التي بنيت عليها القصة.

المبحث الخامس: القصص مأخوذ من القص وهو تتبع الأثر كما في قوله: (وقالت لأخته قصيه) القصص 11. أي تتبعي أثره وكذلك قوله تعالى: (فارتدا على آثارهما قصصاً) الكهف 64. وهذا هو الأصل الذي أشتق منه معنى القصص فكأن المتكلم يتبع ما يقصه حتى يصل إلى النتيجة التي يريدها من حديثه، ولذلك فإن القرآن الكريم عندما يسرد القصة فقد يأتي بها متكاملة العناصر ومتلاحقة الأحداث بعضها إثر بعض، وفي موضوع البحث يريد تعالى أن يبين نهاية تلك القرى وكيف أنه أهلك أهلها بسبب كفرهم وعدم تصديقهم لأنبيائهم إلا أن آثارهم لا تزال قائمة ولذلك يرشدنا تعالى إلى الاعتبار بما حصل لهؤلاء كما في قوله: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين***وبالليل أفلا تعقلون) الصافات 137-138. ومن جهة أخرى نجد الحق تبارك وتعالى يشير إلى أن هناك بعض القرى التي اندرست آثارها وآية البحث صرحت بهذه المقابلة.

فإن قيل: هل يمكن تطبيق آية البحث على ما يحصل الآن من دمار؟ أقول: يمكن نسبة ما ذكر إلى الأحداث الجزئية التي تسبق الساعة، أما عذاب الاستئصال فقد رفع برسالة موسى (عليه السلام) وكان هذا النوع من العذاب يهلك القرى بكامل أهلها وذلك بسبب عدم تصديقهم للأنبياء كما حصل مع قوم نوح وكما أهلك عاداً وثمود ومدين وقرى لوط وصولاً إلى قوم فرعون، أما بعد نزول التوراة فإن الله تعالى قد رفع عذاب الاستئصال، ولذلك قال جل شأنه: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) القصص 43. ولم يبق إلا عذاب القرى الجزئي وهذا رفع ببعثة النبي كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء 107. حيث أن رسالته (صلى الله عليه وسلم) تعتبر عالمية ولاتختص بأمة دون أخرى، إلا أن الفرق الذي كُرم به أتباعه هو الاستغفار الذي شفع بوجوده كما في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) الأنفال 33. والمراد بالاستغفار العبادة بكامل تفاصيلها من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.