كان يسير متمهلاً مطمئناً، فهو ذاهب لموعده الأول معها، بعد أن أطالت ممانعة، ودلالا وصدودا. مكان اللقاء لا يبعد كثيراً عن بيته، ثمة حديقة كبيرة في وسط الحي. رتب وقته بدقة بحيث يصلها لتقول عنه إنه كما الساعة، قال موعدنا الرابعة عصرا، وجاء الرابعة عصرا، تماما! منذ الآن يا حبيبي سأضبط ساعتي على مواعيدك، بل سأضبط كل حياتي على ساعتك! قرر أن يذهب إليها ماشيا، المسافة لا تقتضي سيارة، والسيارة تفسد المواعيد الغرامية الحالمة الجميلة! والسير إلى الحبيب هو متعة وقوة، وكل خطوة إليه قطعة من الجنة. لم يعد يكترث ويتذمر كذي قبل من أكوام الأوساخ والأزبال ملقاة أو مكومة على الأرصفة وفي المنعطفات، والكلاب والقطط بينها سائبة سارحة. مضى هائما مع أحلامه، بالطبع هو لن يستطيع طبع قبلة سريعة على خدها الأسمر الجميل، أو حتى مسك يدها النحيلة الرقيقة كما يفعل الأحباء أو الأصدقاء حين يلتقون عادة، فهي متحفظة وأهل المكان متزمتون، وهو لا يزال غير مصدق أنها قد وافقت على لقائه في موعد يجمعهما منفردين. ولو في حديقة عامة. أعاد حلاقة وجهه، استحم وتعطر واحتار بين ملابسه ما ذا سيرتدي لهذا اللقاء؟ كان يظنه مستحيلا، انتظره طويلاً! أخيراً أرتدى بدلة جديدة أنيقة، زرقاء فاتحة بلون السماء في هذا النهار الربيعي، خفيف الغيوم، ربطة عنق حريرية وردية، حذاءً جديدا لامعا، عطور مرة أخرى، كان ذاهلاً يفكر هل ستمضي علاقتهما قدما وتبلغ نهايتها السعيدة، وهو يكبرها بكل هذه السنوات وقد صار الشيب يكلل رأسه مع شيء من الصلع البراق، وهي شابة حسناء! كان قلقاً يتعثر بسيره في الشارع الضيق. اقترب من عربة صغيرة متوقفة مربوطة إلى حصان، يقف متململاً تحت اسراب ذباب تتطاير على رأسه ووجهه. هم أن ينعطف ويمضي إلى الرصيف مستديراً من ورائه، لكن سيارة مسرعة جعلته ينعطف ليسير مبطئاً من أمامه. بغتة، وكانفجار قنبلة عطس الحصان بقوة رهيبة ليجعله يأخذ أغرب رشاش حمام في حياته، غمر وجهه وشعره وبدلته بطبقة مخاط ولعاب وقطرات دم جعلت وجهه يبدو لمن يراه إنه قد خرج لتوه من رحم مصيبة كبرى! لم يكتف الحصان بعطسته، أخذ يدير رأسه يمينا ويسارا نافضا رقبته ليلقى على العاشق المسكين كل ما كان يحمل منذ سنوات طويلة من قراد وغبار ووسخ،،وقف العاشق متسمرا في مكانه،مشدوها فزعا، تلك فلسفته، حين تنزل عليك كارثة امتثل لها علها ترق لحالك فلا تنزل عليك كل حمولتها! لكن الحصان أنزل عليه كل حمولته وبهدله كأنه أراد أن يصب عليه كل ثارات الخيول مع البشر! خطى العاشق بضعة خطوات عنه،وتوقف متلمسا خسائره، كانت فادحة حقا، وجد إنه وبدلته قد أضحيا في عداد المقزز والمنفر! لم يفق إلا على ضحكات وصيحات صبيان ربما بينهم الحوذي الصغير صاحب هذه العربة.

التزم الصمت، ماذا يجدي أن يدخل في عراك مع صاحب العربة الذي سد بعربته طريق السابلة؟ فهو يرى حتى لو وقع عليه اعتداء سافر فإنه قدره، كان الأكثر إلحاحا عليه من مأساته الماثلة شيء واحد، موعده معها. هل يذهب إليها وهو على هذا الحال؟ كيف ستلقاه؟ ماذا ستقول؟ هل سيبقى الحب أو الأعجاب أم سيطير مع عطسة الحصان؟ أيعود إلى البيت، يستحم ويرتدي ملابس أخرى، وهذا يقتضي على أقل تقدير نصف ساعة، لو استقل سيارة بالطبع ولم يتبق على موعده سوى دقائق؟ ظل حائراً،

خطر له ان يذهب إليها هكذا، ربما تتفهم وضعه،وتضحك معه على ما حدث وتقف بجانبه وتكون منذ اللحظة الأولى شريكة حياته الطيبة الحنونة، المتفهمة لمصائب الحياة وأقدارها! لكنها قد تضحك ساخرة منه، لماذا ليس لديك سيارة؟ لماذا لم تستقل سيارة أجرة؟ مال إلى أن يذهب إليها هكذا ويرى موقفها، في هكذا محن، فهو مؤشر عظيم لحياتهما معا، وبذا عليه أن يشكر الحصان إذ أتاح له هذا الكشف الباهر! سار قليلاً إليها،لكنه وجد أن وضعه منفر تماما، رأى الناس، ينظرون إليه بين راث لحاله أو متسائل مستغرب أو متقزز،وأخذ يشم رائحته نتنة،ثقيلة، أين ذهبت عطور العشق؟ استدار ليعود إلى البيت وإلى الحمام على الفور، لكنه لم يلبث ان عاد ليخطوا باتجاه موعده، قر في نفسه لو إنه لم يذهب لموعده سيفقدها ولن يستطيع استعادتها، لكنه رأى وكأنما في مرآة كبيرة إنه أضحى فجأة قذرا منظره لا يحتمل حتى ممن يحبه أو يميل إليه! فتراجع، عن خطواته كان للحظة يتأجج غضبا، كيف لعطسة حصان أن تغير مجرى حياته؟ لكنه يعود لمكانه يتأرجح مرة هنا، ومرة هناك، والوقت يمضي ويمضي ولا يرحم العاشقين!