ربما لم تشهد المنطقة منذ عقود طويلة، ظروفا أشد تعقيداً مما تمر بها هذه الأيام، هناك الكثير من علامات الحيرة على المستوى الشعبي في معظم الدول العربية، وعلى الجانب الآخر، ثمة ارتباك واضح على مستوى صناعة السياسات، يقابل كل هذا بإحباط ويأس وشعور بقلة الحيلة، لدي قطاعات كبيرة من تلك الجماهير، التي حلمت، بتحقيق جزء ولو ضئيل، من الوعود التي كانت قد أطلقت يوما، والكلمات المعسولة التي دغدغت مشاعر الناس، وصورت لهم إن quot; قوادمquot; الأيام، ستشهد تحقيق المعجزات.
غير أننا اليوم، نقف أمام المشهد الماثل على أرض الواقع، لنرى الحقيقة جلية، وندرك أننا انتقلنا من زخم وعود بانجاز وحدة quot; ما يغلبها غلابquot;، إلى حصاد مرير، لا نجد فيه سوى التفتت والانقسامات في داخل الدولة الواحدة، وبدلا من تحقيق العدالة والتنمية، بات علينا البحث المضني عن مياه نقية تصلح للشرب، وغذاء غير ملوث يليق بالبشر، ومن تجسيد شعارات الرفاه الموعود، إلى مشهد الآلاف وهم يبحثون عن مأوى في مخيمات التشرد، التي باتت تتسع باتساع بلدان الشرق الأوسط، أو وهم ينتظرون الموت في عراء البرد والجوع.
أمام هذه الظروف المأساوية، التي جاءت بعد ما أتخم الزعماء quot;التاريخيونquot; بطوننا بشعاراتهم الفضفاضة، عن ظروف الوطن التاريخية، وتحدياته الكبرى، عن تسلق العلياء، ومعانقة المجد، وجدنا أنفسنا الآن، واقفين في مفترق طريق، عند مستقبل ضل مساره في النهاية، بعد ما اهترأت الأحزمة فوق البطون لأجله.
وفي نهاية المطاف، بات على من يعاني من مرض، أو فقر، أو مظالم، أن لا يتحدث عن حرية ولا ديمقراطية ولا عدالة ولا أن يحلم حتى بالقضاء على الفساد، عليه فقط أن يدور طائعا، في حلقة من المعاناة، لا تلوح لها نهاية، باحثا عن مشفى غير متهالك، وأطباء ضاق الخناق عليهم، فباتوا هم أيضا يبحثون عن منفذ للخروج من بلادهم، إلى أماكن أخرى، يتوافر في حياضها لهم، الحد الأدنى من الأمان والسكينة.
الآن وصلنا إلى زمن quot; الدواعش quot; وأشباههما بإمتياز، حيث يراق الدم في أي لحظة، ولأهون سبب، وتحت شعارات تحمل ألف معنى وألف مبرر، وربما بلا أي سبب أصلا.
في ظل زمن كهذا، أصبحت الحياة رهينة الصدفة، وبات علينا أن نتجرع حقيقة أننا لم نعد لا في زمن الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ولا في عهدة مشروع للتحرر وبناء الدولة الناهضة، ولا حتى في زمن يردد فيه أحد quot; بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدانquot;.
لا بقينا في زمن تحرير الجزائر، أو استقلال اليمن، أو وحدة مصر وسوريا، بل في الزمن المعاكس تماما، حيث بات علينا أن نحافظ ربما على أسوار منازلنا، لا على حدود أوطاننا، بعد أن باتت ملعبا لقتلة مهووسين بالدم والجنون.
نحن في زمن quot;الدواعشquot; وأشباهها، فلا غرابة إذن إذا انقسم السودان الى دولتين، بينما تشتعل دعوات التمرد في أقاليم أخرى منه، وتدور رحى القتال الضاري حتى بين من سعوا لفصل الجنوب عن الشمال، ولا غرابة، إذا تم تصنيف ثلاث دول عربية حتى الآن، ضمن قائمة الدول الفاشلة، أو تم فيه القضاء التام على الجيوش الوطنية، ولا غرابة، إن شهدت فيه دول مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن تداعيات بالغة الخطورة، تهدد كيان الدولة ذاته، فيما تدور بلد بحجم مصر، بعد سبعة الاف سنة من الحضارة المستقرة، في فلك مبهم.
في هذا الزمن، بات لدينا أنصارا لبيت المقدس، لا ترى أعينهم مشاهد الحصار حول الأقصى أو تجويع غزة، وينتقلون بنضالهم إلى مديريات الأمن في المنصورة وفي القاهرة، رافعين هم والدواعش شعارات عن وحدة الامة الاسلامية في العراق وسوريا وفي بلاد المغرب العربي.
لا غرابة، فقد وصلنا الآن إلى الوقت الذي تجد فيه اسرائيل نفسها في أفضل الأحوال منذ تأسيس كيانها، أحوال تقوم فيها منظمات مشبوهة تنتسب الى العروبة والإسلام بإنهاك الدول العربية، وتفتيت كيانها، بالنيابة عن الكيان الصهيوني العدواني. فهل هذا هو ما كانت تحلم به الشعوب العربية؟ وما ظلت الأجيال المتعاقبة تنتظر تحققه؟ وهل صلت الأمور بنا الى هذه الدرجة، وبات علينا أن نرى أوطاننا تتحول إلى ساحات مفتوحة، لكل من هب ودب، من تنظيمات تدور حولها الشبهات، وأصحاب أجندات ملوثة ببحور من الدماء والبشاعة، شراذم متوحشة لا تكف عن بث الفتن في أوصال البلاد، تتحدث عن الوطنية بينما تتكون فصائلها من مرتزقة مجلوبين من جنسيات متعددة، مجموعات من المارقين، واللصوص، هبطوا فجأة من أصقاع الآرض، وملأوا حياة سكان المنطقة بالدم والمذابح، وأساءوا الى الدين وإلى تعاليمه السمحاء.
الآن، وصلنا الى زمن, تتصدر quot; الدواعشquot; واشباهها المشهد فيه، وتقذف في وجوهنا عند كل صباح، ومساء مشاهد النحر والدماء، تقدم الى العالم نماذج فاضحة في القرن الحادي والعشرين، لوحوش بشرية تلتهم أكباد وقلوب ورئات آدمية، أمام الكاميرات، وهي تهلل وتكبر.
وصلنا دون أن ندري الى زمن يصبح فيه الهلع أمرا معتادا، وخبرا يوميا يصافح وجوهنا ويلوث أسماعنا، فنحن في ساحة تتجسد فيها المأساة شاخصة، تحت دعاوى مسيئة لتعاليم الدين ولمجمل القيم الانسانية، وحتى للحضارة البشرية التي تصور المنتمين إليها، ان الانسان غادر منذ زمن بعيد، عصور التوحش والظلمة، وانتقل إلى أفاق التمدن وبراح النور.
لذلك، ليس أمرأ مستغربا، أن يكون هناك شعور بخيبة الأمل يدور في أرجاء المنطقة، فكثير من الأحلام تهشمت مثل قطع البلور، وفوق الأرض هناك حالة من التشوش تضرب بعصاها في ربوع الوطن، وتضع علامات استفهام مريرة حول مستقبله. لا عجب اذن، فقد وصلنا الى ذلك الزمن يحاول هؤلاء القتلة وأشباههم كتابة تاريخه، غير أن التاريخ سوف يدون في نهاية المطاف، أن العار الذي سعى يوما وفي لحظة عابرة، لإطفاء ألق الحياة.. اندحر في نهاية المطاف.