بعد آلاف الساعات من الطيران بسرعة الصوت فى جميع الاجواء على مقاتلات وقاذفات مرتديا بدلة الطيران المهيبة، هبط النسر العجوز الهبوط الاخير لكن هذه المرة ممدا على سرير طبى مرتديا بدلة السجن، ولم يكن المهبط يتلألأ بالأضواء وعربة جيب فاخرة على باب الطائرة فى الانتظار، لكنه كان قفصا حديديا كئيبا وعلى بابه عربة إسعاف، ذلك لأن الرجل لم يتعظ من سلفه ولا من سلف سلفه، فقد هادن تيارات تحتية ورعاها وهيأ لها بيئة حاضنة جعلها تتمدد أفقيا ورأسيا، وهاهو يدفع الثمن مضعفا هو وعائلته وأتباعه كما دفعه سلفه وكاد يدفعه سلف سلفه أيضا، ومن يظن أن مبارك يحاكم لأنه قتل متظاهرين أو أنه نهب ثروة فهو ساذج فمبارك لم يأمر بقتل متظاهرين، أما مسألة نهب الثروات فكل من كان على كرسى فى مصر نهب قدر ما استطاعت يده أن تطول، ليس ذلك فقط بل كل من كان يعارض الكرسى نهب أيضا بمبدأ تبادل المنافع، والأكثر من هذا وذاك أن كل مصرى استطاع أن ينهب فقد نهب بدءا من أموال الناس فى البنوك حتى أراضى الدولة وحتى أراضى الغير بل بيوتهم وأعراضهم،إذن على ماذا يحاكم النسر العجوز والإجابة على هذا السؤال هو موضوع هذه السطور التى وربما يكون مفيدا أن نسرد نبذه سريعة عن سيرة الرجل، وهذه لن ننقلها للقارئ من ويكبيديا أوماشابه لكننى سأسردها للقارئ كشاهد عيان عايشت حقبة الرجل كامله كفرد من أفراد سلاح الجو المصرى وسوف أحاول توخى الحذر الشديد كي لا أنجرف متجنيا عليه لأننى واحد من الذين يشملهم عنوان هذا الطرح وهم أبناء جلدتى الذين عانوا فى أيام هذا الرجل أشد المعاناه،ولا نغالى إذا قلنا أن حقبة مبارك هى الاسوأ للأقباط منذ عهد المماليك، وفى الوقت نفسه سوف أتوخى الحذر الأشد حتى لا أخرج عن الحياد والموضوعية حيث يتملكنى صراع عنيف فى الحكم على حقبتين الأولى حقبة مبارك الضابط الطيارالمقاتل والثانية حقبة مبارك نائب الرئيس ثم الرئيس.

أما عن المرحلة الأولى من حياة الرجل فسوف نكتفى بالسنين التى عاينت أحداثها بنفسى وهى السنين الخمس الأخيرة من خدمته وهى 1970 ــ1975، ففى هذا التوقيت شاءت الاقدار أن ألتحق بالخدمة فى التشكيل الذى كانت طائراته قد وردت للتو من الاتحاد السوفيتى وهى الطراز الاحدث من القاذفات الثقيلة التوبولوف 16 وهو التشكيل الذى كان قد دمر عن آخره على الارض فى بنى سويف وغرب القاهرة وبلبيس وآخر طائرتان ضربتا على الارض فى الساعة العاشرة صباح يوم 5 يونية بعد هبوطهما اضطراريا فى مطار الاقصر وكان حسنى مبارك يقود إحداهما،وهذا التشكيل الجوى كان القوة الضاربة الاولى بعيدة المدى فى الشرق الاوسط كله ( ست ساعات طيران مستمربسرعة ألف كم/ساعة يمكن مضاعفتها فى حالة تموين الوقود فى الجو وثمانية أطنان من القنابل عدا الصواريخ والمدافع ) وهذا التشكيل الجوى هو الذى رفع نجم مبارك عند القيادة السياسية فقد قامت قاذفات التوبولوف 16 بالدور الرئيس فى حرب اليمن ومواجهات أخرى كانت القاذفات الثقيلة قوة ردع مهيبة ولذلك كان هذا التشكيل هو أول ضحايا معاهدة السلام مع اسرائيل فقد تم شطبه من الخدمة فى أول سريان لبنود المعاهدة المشئومة.

نعود إلى مبارك فمع أنه لم يكن قد تولى منصب قائد القوات حينئذ إلا أننا لم نكن نعرف غيره وكان السلاح كله تحت عينه كرئيس للأركان،وكان السلاح كخلية نحل تجميع الطائرات المقاتلة الواردة من الاتحاد السوقيتى ويوغسلافيا وغيرها ودخولها الخدمة، تدريبات ليلية ونهارية لأطقم الطيران، دورات فنية لأطقم الصيانة على يد حبراء، استعداد قتالى لكل العناصر، تدريبات على الانتشار السريع فى كل قواعد ومطارات القطر بل وخارج القطر فى ليبيا والسودان والجزائر والعراق، مناقشة وتحديث الخطط القتالية مع الطيارين والمهندسين والفنيين والاداريين، تفتيشات فنية وادارية عن مدى الاستعداد القتالى للاسراب والوحدات المعاونة، وفى هذا السياق لن أنسى فى أحد تفتيشات الحرب يوم أن مر بأصبعه السبابه على سطح جهاز فنى صغير فى معمل اختبار أجهزة ونظر الى بعض الغبار الذى علق به ثم رفعه فى وجه قائد اللواء وكان معنى الاشارة هو إعادة التفتيش كله، وكان معنى ذلك أيضا شهرا كاملا من العمل المضنى لانرى فيه الشارع، باختصار كان الرجل يعرف كل التفاصيل ويهتم بكل التفاصيل، نقطة هامة أخرى وهى اننى عندما دخلت الخدمة وجدت قادة أسراب مسيحيين وقادة قواعد جوية مسيحيين ورؤساء شعب وادارات مسيحيين، ولازلت أذكر يوم أن حسم حسنى مبارك ــوكان وقتها قائدا للقوات حسم الخلاف على منصب كبير مهندسى التشكيل الذى كنت أعمل به وهو لواء القاذفات بين مهندسين خريجى الفنية العسكرية وبين ضابط فنى من نفس الرتبة لكنه معين من الدرجات الادنى،واختار حسنى مبارك المقدم فنى رزق كامل (المسيحى ) ليكون كبيرا لمهندسى اللواء الجوى 403، ليؤتمر بأمره عشرات المهندسين خريجى الفنية العسكرية وغيرهم من الجامعيين، كانت مصلحة العمل فوق أى اعتبار فقد كان رزق كامل الحاصل على الابتدائية القديمة خريج مدرسة ميكانيكا الطيران فى السلاح الجوى الملكى هو استاذ صيانة القذفات الاول الذى رافق حسنى مبارك فى أكثر من بعثة فنية بالخارج، تلك كانت لمحة سريعة عن المناخ السائد حينئذ، عمل جاد بروح الفريق، لم يكن هناك مكان لعنصرية أو تعصب أو تمييز، وقد قصدنا أن نذكر أسماء وأماكن وأرقام حقيقية حتى يشعر القارئ أننا نلمس الحقيقة لمسا حيا وليس استقاءا لمعلومة من هنا أومعلومة من هناك مشكوك فى مصداقيتها.

نعود للمرحلة التالية والتى بدأت من العام 1975 وهى فترة نيابة الرئيس، ولا شك أن حسنى مبارك الرجل العسكرى قد صدم مما يحدث فى دهاليز قصور الرئاسة،ولعل التغيرات التى أحدثها السادات بإطلاق التيارات الدينية لمواجهة اليساريين وطمعا فى دعمهم لاتفاقية السلام مع اسرائيل، كل ذلك جعل نائب الرئيس الجديد يبدأ فى التكيف مع الواقع أى نائب الرئيس (المؤمن ) الذي افتتح باكورة الاحداث الطائفية فى عهده بحادث الخانكة، ثم بدأت النار تنتشر فى الهشيم مع بدء الانتشار العنقودى للإخوان المسلمين وتابعيهم والذين عادوا من المنافى محملين بأفكار ابن تيمية وأبو الاعلى المودودى وابن عبد الوهاب، وهو نفس التوقيت الذى بدأ فيه مبارك فترة نيابة السادات حيث سادت نغمة تعصب جديدة تلاها الصدام مع رأس الكنيسة القبطية بعد رفضه الذهاب للقدس مع السادات، ثم رفضه التطبيع مع اسرائيل ومنع زيارة الاقباط للاماكن المقدسة واتهامه بتشجيع اقباط المهجر، وهنا كانت نقطة التحول فى شخصية مبارك حيث اعتنق أفكار رئيسه ( منذ تولى حسنى مبارك نيابة الرئاسة ثم الرئاسة لم يلتق رئيس الكنيسة القبطية منفردا إلا مرة واحدة عقب حادث كنيسة العمرانية فى العام 2010) مع أنه كان من المفترض أن الرجل تحقق بنفسه من نتائج روح العدل والمساواه التى سادت فى الحرب التى خاضها وخرج منها ونجمه فى عنان السماء، وكان الاقباط فى سلاح الجو المصرى وأنا شاهد عيان كنت فى قلب المعمعة نقول كانوا مع أشقاؤهم يعزفون سيمفونية آداء رائعة مهدت للحدث العظيم فى تاريخ المصريين وهو الانتصار الاول والوحيد فى تاريخهم الحديث، لكن الرجل نسى كل ذلك ودار فى فلك ( الرئيس المؤمن ) ,وتلك كانت لمحة أخرى عن فترة نيابة الرئيس.

أما عن الحقبة الاهم والتى أختتمت بالمشهد المأساوى مشهد النسر العجوز قابعا فى قفص الاتهام، مشهد دفع فاتورة النسيان فقد نسى الرجل يوم أن قتلوا رئيسه وقائده الاعلى فى ذكرى انتصاره، نسى أنه نجا منهم بأعجوبة فى هذا اليوم وبعده فى إثيوبيا ومحاولات أخرى لقتله لم يعلن عنها، وبدل من أن يتعظ ويبدأ فى تطهير الوطن سار على نفس المنوال، بل الأدهى والامر أنه فتح الباب لمفاوضتهم تحت شعار المراجعة الكاذب. وبدأت موجة معاناه جديدة للأقباط فقد صرح مبارك بعشرات القنوات العنصرية التى لم يكن لها رسالة سوى بث الكراهية والعنصرية البغيضة لسبهم وإزدراء عقيدتهم وإباحة دمائهم وأعراضهم، ليس ذلك فقط بل سمح بتمدد أجنحة ممولة تمويلا هادرا مهمتها الرئيسة التحرش بالاقباط فى كل بقعة فى مصر من العاصمة وحتى آخر نجوع أقصى الصعيد، والنتيجة كانت مئات من الشهداء الاقباط بتحريض من مساجد أنصار السنة والجمعية الشرعية فى الهجمات الاسبوعية المنظمة بعد صلاة كل جمعة تحت سمع وبصر مبارك ووزير داخليته وأمن نظامه، شهداء بالمئات روت دمائهم أرض أجدادهم تحت سمع وبصر مبارك ولم يتم محاسبة متهم واحد فى طول البلاد وعرضها، ولم تعد مهمة الحراس المعينون على الكنائس هى حمايتها ولكن لتبليغ أمن الدولة عمن يخرج ويدخل وماذا قالوا وماذا فعلوا والطامة الكبرى عندما تدخل عبوة من الاسمنت أو الجبس لإصلاح دورة مياه تهرع سيارات الشرطة فى ثوان لتأخذ كاهن الكنيسة للتحقيق، أما عند حدوث هجوم على الكنيسة تنام الشرطة نوما عميقا ولا تصحو إلا بعد أن تقع الواقعة، وبالطبع لن ينسى الاقباط فعاليات المظاهرة الوحيدة التى كان يسمح بها نظام مبارك كل يوم جمعة أمام مسجد القائد ابراهيم فى الاسكندرية وباقى مساجد السلفيين فى كل القطر لتسب الاقباط ورئيسهم الروحى بأحط الشتائم.نعود للسؤال الذى كنا قد طرحناه على ماذا يحاكم مبارك؟ والاجابة ببساطة مبارك يدفع ثمن تكرار أخطاء سلفه داهن وهادن ورعى وغض النظر عن ورم سرطانى نهش فى جسد الوطن ظنا منه أن صفقة يمكن عقدها مع هؤلاء لتبادل المنفعة صفقة الكرسى مقابل الشارع، صفقة تعيد انتاج نظام آل مبارك مقابل أن يستولى المتطرفون على المجتمع كله، يدفع ثمن القراءة المعكوسة للتاريخ ويدفع ثمن ظلم مكون رئيس من مكونات هذا الوطن بل ظلم شعب بأسره، يدفع ثمن فاتورة عفن نظام الحكم الذى عجز عن فتح طاقة تشع ولو بصيص أمل فى تغيير قادم يمنع الاسن الذى غطى كل مناحى الحياه.أما عن نبرة التعاطف السائدة الآن على مبارك ونظامة فهى خطة مشبوهة، فمبارك هو الذى مكن هؤلاء المتطرفون من اعتلاء عرش مصر فى غفلة من الزمن، مكنهم من اقتصاد الوطن وجامعات الوطن ونقابات الوطن، مكنهم من استعمار بقعة طاهرة من أرض الوطن رويت بدماء الاقباط والمسلمين مكنهم اليوم من قتل جنودنا وضباطنا فى الجيش والشرطة فى الشوارع وعلى الحدود،نعم هو المسئول الاول والأخير عما حدث للأقباط فى عهده المشئوم، ليس الاقباط فقط ولكن كل المصريون.