من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتبت صحيفة الوسط البحرينية في الحادي من شهر يوليو الجاري خبرا تقول فيه: "دعا عاهل البلاد المفدى المهنئين من اهالي العاصمة، بمناسبة شهر رمضان المبارك، المواطنين إلى ممارسة حقهم الدستوري في الانتخابات النيابية المقبلة، التي ستشهدها مملكة البحرين في هذا العام، لافتا جلالته إلى أنها فرصة للتجديد والبناء والنماء، ومحطة مهمة للنهوض بالحياة السياسية، ودعم المسيرة الديمقراطية، التي تعد أهم منجزات هذا الوطن، لاختيار الأقدر والأكفاء على تحمل المسئولية." كما قال جلالته: " انتم أمناء على انتخاب من تتسمون فيهم الخير، والصلاح، والإخلاص، في خدمة هذا الوطن، بعيدا عن سلبية من يدعو ألى التراجع، والتخلف، والتطرف، والإرهاب." وقد أعلنت المعارضة البحرينية بأنها لن تشارك في الانتخابات القادمة، إلا بعد أن تتحقق بعض شروطها التي طرحته في عدة مناسبات سابقة. ويبقى السؤال للمعارضة البحرينية: هل فرض شروط على العملية الديمقراطية سلوك موفق؟ وهل ينتهي لنجاح التجربة الديمقراطية؟ أم سيفتح الأبواب لطرح جميع الفرقاء شروطهم، والتي قد تكون تعجزية لتنتهي لعرقلة التجربة الديمقراطية، وتوقف عملية التنمية المستدامة، ليفقد الشباب فرصهم في حياة فاضلة كريمة؟ وهل فعلا وصلت الديمقراطية في الدول العريقة لمستوى الكمال، لتكون مثلا لتجارب دول المنطقة، أم تمر هي نفسها بتحديات معقدة تحتاج للدراسة والبحث؟ وهل التجربة الديمقراطية الغربية هي الطريقة المثلى لتحقيق التنمية المستدامة في دول الشرق الأوسط، أم هناك تجارب أسيوية، تجمع بين الأتوقراطية والديمقراطية، والتي أثبتت نجاحها في سنغافورة والصين؟
&كتبت المجلة الأمريكية المتخصصة في الدبلوماسية، فوينز أفير، مقال في عددها الصادر في شهر يوليو الجاري وبعنوان، دولة الدولة- التنافس العولمي للحكومة المستقبلية، كتبه جون ميكليثويت، رئيس تحرير المجلة الاقتصادية البريطانية، دي إيكونوميست، وأدريان ولودريدج مدير تحريرها. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن مجلة دي إيكونوميست تعتبر العقل المفكر للرأسمالية أدم سميث، وقد دعوا مؤسسيها لتطوير الرأسمالية الفابية في بريطانيا، والتي اعتبرت رأسمالية ذات مسئولية مجتمعية. وقد بدء الكاتبان مقالهما بعبارة من عالم الاقتصاد الغربي، وأحد مؤسسي الاقتصاد المعاصر، الفريد مارشال في عام 1919، تقول: "الدولة هي أغلي ما يملكه البشر، وليس هناك اهتمام أعظم من العمل لكي تستطيع أداء واجبها بأفضل طرق ممكنة."
فقد أعتقد مارشال بأن أفضل طريقة لحل معضلة الفقر في النظام الرأسمالي هو تطوير نوعي للدولة، وذلك بخلق بيئة صحية للإبداع في أنتاج أفضل الأفكار المبدعة.& ولذلك درس مارشال ليس فقط الاقتصاد بل أيضا النظريات السياسية، حيث اعتقد كما اعتقد جون لوك، وادم سميث، بأن دراسة العلوم السياسية قد تؤدي، ليس فقط لفهم حقيقة مفهوم الدولة، بل أيضا قد تكون الخطوات العملية لإصلاح نظام الحكم. ومع الاسف ليس الكثيرون في دول الغرب يشاركون مارشال افكاره، بل يعتقدون بأن الدولة هي السبب وراء الكثير من المعضلات المجتمعية، ولذلك يلعبون دورا معارضا في العملية السياسية، وضد الحكومة بدل دعم الاصلاح.
فمثلا في البرازيل وتركيا، خرج الكثير من المواطنين للشارع ضد فساد وعدم كفاءة قياداتهم. وفي إيطاليا، ومنذ عام 2011، غير الناخبون ثلاثة رؤساء حكومة، وفي الانتخابات الاخيرة حصل الحزب الذي يرأسه ممثل كوميدي على أكثر الاصوات. وفي الانتخابات البرلمانية الاوروبية، في شهر مايو الماضي، صوتوا الناخبين في بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، لحزب قومي يميني، بعد أن عانوا من الاحباط من السياسيين التقليديين. كما فضل الهنود ناريندرا مودي في الانتخابات الهندية الاخيرة، وسيتوجه الامريكيون لانتخابات الكونجرس في نوفمبر وهم مليئين بالغضب بدل الامل.&
وكل تلك الظواهر السلبية في الانتخابات، بسبب أن الجميع فقد الثقة بالحكومة التي في رأيهم لن تستطيع أن تحقق شيئا. ويبدو بأن هذا التشاؤم غريب، حينما تعتقد الكثير من الشعوب بأن القطاع العام محصن ضد التطورات التكنولوجية، ومن قوى العولمة التي مزقت قواها القطاع الخاص. كما تتناسى هذه الشعوب درس من التاريخ، بأن الحكومة، وخاصة حكومات الغرب، قد تغيرت بشكل بارز خلال العقود القليلة الماضية، وعادة بسبب أن بعض الموطنين المبدعين عملوا قصارى جهدهم للإصلاح والتطوير. ويبدو بأنه ليس فقط الموطنين العاديين في العالم الديمقراطي فقدوا ثقتهم بالحكومة، بل حتى القيادات نفسها فقدت الثقة في التغير والتطوير.
ومن سخرية القدر، أن يتفهم ويستوعب حكام الصين الاتوقراطيين، لا قيادات الغرب الديمقراطية، نظريات مارشال عن المنافسة وقابلية تطويع الحكومة. فقد درست القيادة الصينية المفكر السياسي الغربي العظيم، اليكسس توكوفيل، وأفكاره حول أفضل الحكومات، ليتفهم الصينيون بأن سبب نجاح الغرب هي الحكومة. فحتى القرن السادس عشر كانت الصين أعظم حضارة في العالم، وبعدها تقدم الغرب، والشكر لثلاثة ثورات (ونصف) في الحكومة، دفعت لقوة التكنولوجية والافكار المبدعة. وقد بدأت توا الثورة الرابعة، ولكن ليس من الواضح أية بلد ستشكل هذه الثورة الجديدة، وهل ستشكل من خلال صعود تقاليد الديمقراطية الغربية اللبرالية، أم من خلال الحكم الاتوقراطي الذي برز خلال العقود الاخيرة، خاصة في سنغافورة والصين، كما بدأت التطورات المعاصرة في كوريا الجنوبية من خلال تجربة اتوقراطية قادها، والد رئيسة دولة كوريا الجنوبية الحالية، وهو الجنرال بارك.&&&&&&
&ولو راجعنا تاريح تطورات بنية الحكومة، لوجدنا بأن هناك ثلاث تحولات في التاريخ: التحول الأول، بروز نظام الدولة في القرنين السادس والسابع عشر، الذي خلق الانضباط الداخلي والتنافس الخارجي في أوروبا. والتحول الثاني، الثورة اللبرالية في القرنين الثامن والتاسع عشر، التي استبدلت نظام الرعاية بنظام الجدارة، مع حكومات أصغر. أما التحول الثالث، فهي الثورة الفابية في بدايات القرن العشرين، التي خلقت دولة الرعاية الاجتماعية المعاصرة. أما التحول الرابع هو رجوع الحكم المرتبط بالسوق، من خلال تجربة مرغريت تشر في بريطانيا، والرئيس رونالد ريجن في الولايات المتحدة، وقد يعتبره البعض بأنه تحول صغير، ولكنه مهم، وقد يكون نصف ثورة.
وقد حاولت جميع هذه الثورات أن تجيب على السؤال التالي: لماذا نحتاج للدولة؟ وقد نتمكن فهم الجواب من خلال أعمال أربعة مفكرين في الغرب وهم: توماس هوب، وجون ستيورات مل، وبتريس وب، وملتون فريدمان. فقد ولد توماس هوب في عام 1588 حينما كانت بريطانيا تعاني من حروب مدمرة، وقد صدر كتابه، التنين، في عام 1651، والذي طرح فيه السؤال التالي: كيف ستكون الحياة في دولة طبيعية؟ وكان جوابه: "أن البشر يحاولون أن& يستغلون بعضهم البعض، كما أنهم محاصرين في حرب، كل إنسان ضد الإنسان الاخر. والطريقة الوحيدة للتخلص من هذه الصراعات الابدية، واحتمال الحياة القصيرة المقرفة القدرة، هو بأن يتنازل كل منا عن حقه الطبيعي في أن يعمل ما يشاء، بتكوين سيادة صناعية جماعية تسمى الدولة. وسيكون وظيفة الدولة استلام السلطة، وستعتمد شرعية هذه الدولة على فعاليتها وكفاءتها، كما أن رأيها يعرف الحقيقية، وأوامرها تمثل العدالة. فبتنازل المواطن عن جزء من حقوقه يضمن بقاءه ورخائه." فقد صنعت الدولة للمواطنين بدل أن يكون المواطن للدولة، كما أدت هذه النظريات لبروز مفهوم الدولة في أوروبا. ففي بدايات القرن السادس عشر بدأت الممالك الأوروبية احتكار السلطة ضمن حدودها، وتدريجيا أضعفت سلطة الامراء والكنيسة، وقام ملوكها بتقوية البيروقراط في الدولة، ليوسعوا سلطة الحكومة المركزية، كما أسسوا نظام محكم لجمع الضرائب.
وقد أنقذت هذه التغيرات أوروبا مما عانت منه القارة الهندية، حيث كانت الدولة ضعيفة جدا، بحيث انقسم المجتمع إلى بلديات صغيرة، ضعفت أمام مقاومة المستعمر. كما تجنبت أوروبا أيضا ما عانت منه امبراطورية الصين من مركزية صارمة على مساحة بلاد شائعة. كما أدت التطورات التكنولوجية والاقتصادية لتقوية مفهوم الدولة في اوروبا. فقد جمعت الثورة الصناعية المواطنين في مدن كبيرة، وطورت وسائل التنقل والتواصل، مما سهل من عمليات ادارة الدولة، وانتقال السلطة لبيروقراطية كفئة ومركزية. وقد أدى كل ذلك للثورة اللبرالية في القرنين الثامن والتاسع عشر، والتي بدأت بالثورة الامريكية والفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر، ولتنتشر لباقي الدول الأوروبية، ولتستبدل هذه الإصلاحات النظم الرعوية، بحكومات جديرة وكفئة ومحاسبة. وليتذكر عزيزي القارئ بأن منطقة الشرق الأوسط تمر اليوم بمرحلة معاكسة لهذا التاريخ الأوروبي، بعد أن ضعفت هيبة الدولة، وانتشرت الجماعات المتطرفة والإرهابية في الكثير من بلدانها. ولنا لقاء

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان