أتمنى بأني لم أثر بعنوان مقالي هذا توجساً مبدئياً لدى القارئ من منطلق "الجواب باين من عنوانه"!، ونحن في هذا الشهر المبارك، فلست اليوم هنا بصدد التحدث عن كوارث الطيران لا من قريب أو بعيد (وإن كنت قد أسرفت القول سابقاً حول حادثة الطائرة الماليزية التي لم تزل "مفقودة"!، عبر مقالي المنشور بجريدة إيلاف الغراء والموسوم "سر الطائرة الماليزية عند مهاتير!"، والذي تلقيت عبره الكثير من ردود قارئيه الكرام التي استبعدت واستنكرت "نظرية المؤامرة" فيه، ولم ينصفني بعدها بفترة قريبة من نشر مقالي سوى السيد مهاتير محمد نفسه عندما نشر مقالاً في مدونته الخاصة والذي جاء متوافقاً مع معظم ما ذكرت وبخاصة "نظرية المؤامرة" فيه! بل وإن المقال نفسه طار بقدرة قادر ليحطّ في إحدى الصحف الماليزية – عبر إعادة نشره - الناطقة باللغة العربية وتُدعى الشروق! وللتنويه فقد ضمّنت أجزاء منه بتصرف في هذا المقال لمناسبة السياق)، بل على العكس من ذلك فإني من خلال السطور التالية سأتطرق إلى ما أسميته "طائرة السيادة ذات الوجهة الواحدة"! والتي جلبت عزاً وسيادة لكلٍ من ماليزيا بالأمس والبحرين اليوم، وإن كانت هناك من "كارثة" فسيجدها القارئ قد وقعت في "الوجهة الواحدة" لهاتين الطائرتين.. أمريكا!
&
عندما كانت ماليزيا تتصدى لضراوة الأزمة المالية الأسيوية في تسعينيات القرن الماضي (1997 – 1998) والتي عصفت باقتصادها واقتصاديات دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، كانت ماليزيا هي الدولة الوحيدة بين دول الآسيان التي لم تتقبل "الحنان المفرط" والمفاجئ لصندوق النقد الدولي – أو ما يُعرف ببنك أمريكا الدولي! – عبر عرضه تقديم حزمة مبادرات اقتصادية فورية بغرض انتشال الاقتصاد الماليزي من أزمته، حينها أعلن القائد الفذ، مهاتير محمد رئيس الحكومة الماليزية آنذاك رفضه القاطع – بدبلوماسيته المعهودة – وحكومته أي تدخلٍ لصندوق النقد باعتبار أن الأزمة الاقتصادية الماليزية شأن داخلي وأن الحكومة لديها الخطط الوطنية الكفيلة بإنعاش الاقتصاد الماليزي مجدداً (والتي بالفعل أثبتت فاعليتها بعدها). وجاء رفض مهاتير القاطع والمبرر حينها كونه أولاً، أن حكومة ماليزيا لم تطلب أساساً تدخل الصندوق، وثانياً والأهم، أنّ مثل هذه المبادرات كانت ستجعل من اقتصاد ماليزيا يخضع لأمر الصندوق الأسود! ولا بد من الإشارة هنا إلى موقف شاذ داخل الحكومة الماليزية سجّله وزير المالية الماليزي حينها، "أنور إبراهيم"، حينما دعم بشدة تدخل "صندوق النقد الدولي" في أزمة ماليزيا المالية عبر قبول مبادرات الصندوق، وهو الموقف الذي دفع على إثره مهاتير إلى عزل أنور من منصبه (ويبطل العجب هنا من موقف أنور آنذاك، عندما نعلم بأنه قد تم تعيينه بعد عزله مباشرة كمدير تنفيذي في صندوق النقد الدولي، أو ما يُعرف في عرف الصندوق بمكافأة "شخصية العام الاقتصادية في الدول النامية الداعمة لخطط الصندوق الأمريكية"!). وقد استغل نائب الرئيس الأمريكي في وقتها، آل غور، حضوره كمتحدثٍ في مؤتمر دول الآسيان الاقتصادي الذي عُقد في ماليزيا لبحث تداعيات الأزمة المالية الأسيوية، حيث ندد خلال خطبة ألقاها أمام الحضور -وكان منهم مهاتير - بقرار الحكومة الماليزية في عزل أنور من منصبه! ما دفع يومها الحكومة الماليزية إلى الطلب من آل غور بمغادرة ماليزيا فوراً، ولتعلن معها ماليزيا عن تشغيل أول رحلة لطائرتها السيادية ذات الوجهة الواحدة.
&
لم تكُف – ولن! - محاولات العبث الأمريكي في داخل ماليزيا، بل وأنها زادت حدةً ووضوحاً في السنوات الأخيرة، خاصة إبان إندلاع ما يسمى بالربيع العربي، لتأتي هذه المرة عبر بوابتي، "الديموقراطية وحقوق الإنسان"، فقد قامت أمريكا حينها بدعم حركات المعارضة الماليزية (وخاصة تلك التي يترأسها المذكور سابقاً أنور إبراهيم، وتُدعى "حركة الإصلاح"!) معنوياً ومادياً بغية استغلال موجة "الثورات العربية"، لنقلها إلى ماليزيا. كما وأنها ساهمت أيضاً في تاسيس مركزي حقوق الإنسان "Bersih" و "Merdeka"، المشبوهين في ماليزيا بقصد محاربتها من الداخل!، إلا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل حتى الآن! وللمتسائل هنا، "ولماذا الاستهداف الأمريكي لماليزيا تحديداً"؟ فجوابي، دولة مسلمة كماليزيا تُعد من أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم من خارج منظمة أوبك، ويوجد بها أيضاً معدلات هائلة من احتياطات النفط والغاز، أضف إلى ذلك الأهم، وهي النهضة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها ماليزيا في غضون سنوات معدودة بفكرٍ وعزمٍ وعمل دؤوب وطني بحت هذا مع عدم إغفال البعد المجتمعي الراقي المتمثل في النسيج المجتمعي الماليزي الذي يغمره التعايش بين أطيافه المتعددة (وهنا مربط التماهي بين المملكتين ماليزيا والبحرين). أمثل هذا بعدها يمرُّ مرور الكرام أمام اللئام؟!
&
الإسهاب المتعمد أعلاه في المثال الماليزي الذي جرى بالأمس والمؤامرات الأمريكية الدنيئة بقصد التدخل في سيادة ماليزيا وشؤونها الداخلية، جعلني قطعاً في مندوحةٍ عن الإسهاب في الربط بينه وبين تشابه دوافع موقف وطني البحرين المشرف قبل أيام قليلة عندما أعلنت البحرين هي الأخرى عن تشغيل أول رحلة لطائرتها السيادية - ونتمنى أن لا تكون الأخيرة في كلا البلدين المسلمين وفي كل بلدٍ تعنيه احترام سيادته - والذي كان أول المغادرين على متنها المدعو/ توم ماليونسكي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي (ولا احتاج لتكملة باقي تسمية المنصب لشكي في عدم دقته كونه يتضمن "الديموقراطية وحقوق الإنسان"!) وذلك لعدم احترامه سيادة الدولة الزائر لها – وهذه ليست المرة الأولى خلال زياراته المتكررة للبحرين!- وتدخله في شأن بحريني أصيل من خلال مساعيه في إملاء "الشروط الأمريكية" على الواقع السياسي البحريني اليوم وذلك من خلال عقد اجتماع – بحسب طلبه – في مقر السفارة الأمريكية بالمنامة أولاً ومن ثم في مقر من تدعي بأنها حركة "معارضة وطنية" تحت مسمى "الوفاق الوطني"! وهو الموقف البحريني السيادي الذي أعقب على إثره حملة مواقف وتصريحات رسمية وإعلامية أمريكية ليس لها سوى قول العليم سبحانه، "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر"!
&
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القرار الديبلوماسي السيادي البحريني – أو ما يُعرف دبلوماسياً ب "بيرسونا نان غراتا - النوعي والموفق الأخير (وإن كان متأخراً ولكن خيراً من أن لا يصل أبداً!)، كان قد سبقه أيضاً قبل فترة قريبة قرارات نوعية وموفقة تمثلت في صدور المرسومين الملكيين باعتماد فتح سفارتين لمملكة البحرين في كلٍ من أندونيسيا والبرازيل، ومثل هذه العلاقات ستعلي من شأن البحرين - سياسياً واقتصادياً - والديبلوماسية البحرينية بلا شك، خاصة وأن العصر السياسي والاقتصادي القادم – قريباً جداً - سيكون عصر تعددية القوى الصاعدة – دولاً وتحالفات، وعسى أن يكون حينها اتحاد خليجنا العربي قائماً ومن ضمنها - بقوة على الساحة السياسية الدولية – ومنها أندونيسيا والبرازيل – وبالتحديد الآسيوية منها (التي تتميز بسياسات خارجية تجتمع على واقع التعاون والسلام واحترام سيادة الدول في علاقاتها الدولية، بعكس ما تتشدق فيه أمريكا قولاً فقط)، لتسطع الشمس الأسيوية بعدها معلنة إنصهار العصر الجليدي للهيمنة الأمريكية كلاعب أناني أوحد في الساحة الدولية. ولا عزاء للأمريكي – ذو الأصول الأسيوية – "فوكوياما"، أحد أهم منظري السياسة الأمريكية الليبرالية الجديدة، صاحب كتاب "نهاية التاريخ"، سوى بإعادة كتابة مؤلفه ولكن هذه المرة تحت عنوان، "عودة التاريخ"!
&
ختاماً، قد تشطح بنا تيارات "العولمة" أو "الليبرالية قديمها أو النيو" – وقس على ذلك من شطحات ما أنزل الله بها من سلطان! – ذات اليمين وذات الشمال، ولكن تبقى غضبتنا "وائلية"، قديمة قِدَم شاعرنا الوائلي القائل:
&
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
&
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
&
&
كاتب بحريني