أثبت فشل مجلس النواب العراقي في إختيار رئاسته وخرقه للمادة الرابعة والخمسين من الدستور العراقي التي تنص على" يدعو رئيس الجمهورية مجلس النواب للانعقاد بمرسومٍ جمهوري، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات العامة، وتعقد الجلسة برئاسة اكبر الاعضاء سناً لانتخاب رئيس المجلس ونائبيه، ولا يجوز التمديد لاكثر من المدة المذكورة آنفاً" والمدة المعنية بالتمديد حسب نص المادة تتعلق بالمدة الممنوحة لرئيس الجمهورية لدعوة مجلس النواب للإنعقاد وليس لمجلس النواب كي ينتخب رئيس ونائبين له، أثبت هذا الفشل الذي تكررفي الدورات السابقة أيضا عدم ملائمة النظام البرلماني للحالة العراقية في ظل فهم أو عمل سياسي يتخذ من التحشيد القومي أوالطائفي طريقة لكسب الجمهور"عاطفيا" مما يؤشر إفتقار القوى السياسية العراقية على إختلاف مشاربها إلى برامج سياسية لبناء الدولة أو حتى برامج تنموية تفرض حضورها في ذهن الناخب العراقي من القوميات والطوائف المختلفة في الإنتخابات،الأمر الذي لم يحدث سابقا، ولا أظنه سيحدث لاحقا لسببين أولهما يتعلق بما كرسته أحزاب الإسلام السياسي والأحزاب القومية العربية والكردية وغيرها من نزعة شوفينية متطرفة، تلك الأحزاب التي تقصر عملها وبرامجها وحتى أهدافها لتحقيق أهداف ومكاسب لطائفة أو قومية على حساب الأخرى التي تقاسمها الوطن منذ مئات بل الاف السنين فكانت منتجة للتطرف الذي ولد تطرفا مقابلا ربما أشد وأقسى. وثانيهما يتعلق بإنعدام وسوء فهم الأمريكان المؤسسين لهذا النظام وتأثرأصحاب القرار فيه ببعض المحللين أو "الخبراء" بالشأن العراقي من الذين صوروا الوضع في العراق وكأنه "صراع دموي" بين السنة والشيعة منذ الأزل، الأمر الذي لم يحدث في كل تاريخ العراق الحديث إلا بعد تأسيس النظام السياسي الجديد الذي إعتمد المجموعات المجتمعية (السنة والشيعة والعرب والأكراد والتركمان وغيرهم) كمجموعات سياسية، فعمد بعض السياسيين من هذه المجموعات لتأكيد هويته (الطائفية أو القومية) ليحظى بقطعة من "الكيكة العراقية-كما يصفهاالنائب عباس البياتي" التي وزعتها الولايات المتحدة حسب الإنتماء القومي أو المذهبي مما أوجد هذا الصراع الدموي بين السياسيين-ولازال الصراع بينهم فقط- طريقا للسلطة وليس البرامج السياسية أو الإقتصادية أو التنموية أو أي شيء أخر يمكن أن يكون إهتماما مشتركا لدى العراقيين على إختلاف قومياتهم ومذاهبهم.
وقد عزز النظام النيابي هذا الشرخ بين المجموعات المجتمعية التي لا يخلو منها بلد في العالم، فحسب هذا النظام المستند إلى "المحاصصة العرقية-الطائفية" يجب تمثيل "الطوائف والقوميات" وليس الأحزاب السياسية في السلطة، وهذا يعني إن "تقسيم السلطة" بين هذه المجموعات الإثنية سيكون هو السائد في المستقبل القريب بغض النظر عن نتائج الإنتخابات، فحتى لو فازت في الإنتخابات القادمة قائمة غير طائفية مثل "التحالف المدني الديمقراطي" أوأي تكتل أخرشبيه له بأكثر من نصف عدد الأصوات فسينظر لها على إنها لا تمثل العراقيين من وجهة نظر أصحاب ومريدي النظام العرقي-الطائفي، فالسلطة يجب أن توزع حسب القومية والطائفة ولا شيء سوى ذلك.
تدعي أغلب الأحزاب والكتل والشخصيات السياسية العراقية، إنها ليست طائفية وإنها خاضت الإنتخابات من أجل الغاء نظام المحاصصة الطائفية، وقد إختلفت مع بعضها من نفس المجموعة المجتمعية لأن الأخرطائفي وإن برنامجها يتخطى حدود الطائفة والقومية بل هو لكل العراقيين من كل الطوائف والقوميات، وقد صدق بعض العراقيين ذلك فإنتخبوا من غالى أكثر من سواه في محاربة الطائفية ومنهج "المحاصصة العرقي-الطائفي" فإنتخب بعضهم "كتلة دولة القانون" لأنها مثلا رفعت شعار"الأغلبية السياسية" لما يمثله هذا الشعارمن خروج عن الوصفة الأمريكية الجاهزة (شيعة سنة أكراد)، وإنتخب أخرون "متحدون للإصلاح" ظنا منهم إنهم سيوحدون الشعب العراقي تحت رايتهم وإخراجهم من مستنقع الطائفية النتن، ولكن ما حصل بعد الإنتخابات الأخيرة يعد أكبر عملية خداع يتعرض لها شعب في التاريخ، فإتحدت كتلة "دولة القانون" مع أحزاب "شيعية" ناصبتها الخصومة بل العداء طوال السنوات الماضية ليعيدوا الحياة الى "التحالف الوطني-الشيعي" وتخلت عن شعار "الأغلبية السياسية" وإرتضت لنفسها أن تكون ثانية أحد أضلاع المثلث العرقي-الطائفي،وإتحدت قائمة "متحدون" مع "العربية" التي شهدت علاقتما أكبرخلافات بين كتلتين سياسيتين خلال السنوات السابقة مع غيرها لتكون "إتحاد القوى العراقية-السني" وهناك "التحالف الكردستاني-كردي"، ولم ينتخب مجلس النواب رئاسته لأنه حسب النظام العرقي-الطائفي يجب أن يكون رئيس المجلس "سني" وأحد نائبيه "شيعي" ونائب أخر"كوردي" الذي تأخر"نتيجة سوء الأحوال الجوية"، فنحن الأن بصدد إعادة إنتاج بل تكريس هذا النظام الذي كانت نتيجته إستشراء الفساد الذي كانت إحدى نتائجه دخول عصابات داعش الى الموصل وإحتلال قوات البيشمركة لكركوك، وإنعدام الخدمات وغيرها من حالات "إنعدام وجود الدولة".
ماذا لو كان النظام في العراق رئاسيا؟ الغريب في الأمر إن رئيس الجمهورية حسب الدستور العراقي هو منصب فخري ليس له من الصلاحيات غير تلك المتعلقة بالقضايا البروتوكولية والتشريفية، أي إنه ترف مؤسساتي وضع كي يكون أحد أعمدة النظام العرقي –الطائفي في العراق، فهوغير مؤثرعمليا بسياسة الحكومة ولا يستطيع فعل شيء لتغيير نهجها إذا لم يرتق أداؤها الى مستوى الطموح، لكن سترضى إحدى المجموعات الإثنية العراقية به، خاصة في ظل تغليب المصالح الإثنية وأحيانا الشخصية على المصلحة العامة، وستتقاتل فيما بينها على هذا المنصب كما شهدناسابقا - وسنشهد في هذه الدورة- من قبيل القول "إن منصب رئيس الجمهورية إستحقاق كوردي"!!. بينما يتمتع رئيس مجلس الوزراء بأغلب الصلاحيات -رغم وجود مواد في الدستورتشير الى تدخل السلطة التشريعية في عمل السلطتين القضائية والتنفيذية-أي إن رئيس مجلس الوزراء يتمتع بصلاحيات "رئيس جمهورية" في النظام الرئاسي، فلماذا لم يتم إعتماد النظام الرئاسي في العراق؟
لقد غلب على لجنة كتابة الدستورالعراقي التوجه الإثني منذ الساعات الأولى لعملها وعملت على إرضاء ممثلي "المكونات" وتقسيم مؤسسات الدولة "حصصا"بينها، ولم يجد أعضاء اللجنة إن جملة "الشعب العراقي" مثلا تغني عن تعداد مجموعاته المجتمعية كما يرد ذكرها في الدستوركلما ذكرت هذه الجملة فتكون "الشعب العراقي من السنة والشيعة والعرب والأكراد..." وبالتالي لم يستطع أعضاء اللجنة الإنفكاك من هوياتهم الإثنية والعمل من أجل بناء دولة، بل كان الهم السائد حينذاك تقسيم مناصب الدولة ومؤسساتها بينهم بإعتبارهم ممثلين ل"مجموعات&إثنية" وليس بإعتبارهم ممثلين عن "شعب العراق"، فنتج عن ذلك زرع بذور تفتيت الدولة على أسس عرقية-طائفية والذي نشهد نتيجته الأن. وللإجابة عن السؤال السابق (ماذا لوكان النظام في العراق رئاسيا؟) أقول كنا سنشهد لغة سياسية مختلفة جدا، فلكي يكون "الشيعي" مقبول من "السنة" سيكون عليه إستخدام لغة وطنية جامعة، وكذلك الكوردي والسني، وسنشهد صراع أفكار ومناهج لبناء الدولة للحظوة بقبول الجميع دون إعتبارلقومية أو طائفة "من قال" وسينصب الإهتمام الى"ماذا قال" بديلا عن "من قال" التي أصبحت تستجلب المعارضة لمجرد إن قائلها فلان من القومية أو الطائفة الفلانية. كنا سنشهد سنة مقبولين في الوسط الشيعي مثل النائب مثال الألوسي الذي ترفع عن هويته الإثنية لصالح هويته الوطنية ففاز بأصوات الشيعة وكنا سنشهد شيعي مقبول ومطلوب من الوسط السني لنفس الأسباب، اي بإختصار شديد كنا سنشهد لبنات بناء دولة حقيقية لا يفرق شعبها ساسة منغمسون باللغة والخطاب الإثني.
النظام البرلماني نظام قد يكون ملائما لشعوب ودول أخرى حيث تعلو المصلحة العامة على ما عداها وحيث "التعصب" لقومية أو مذهب أو دين جريمة يحاسب عليها القانون، وحيث المعارضة لا تستند في معارضتها لحكومتها بالنظر لقومية أو طائفة أو مذهب رئيس وزراءها بل إلى مدى ما تكون سياساته تخدم وحدة ومصالح البلاد من عدمها، وحسب تلك الأنظمة في تلك البلدان، يكون قادة أغلب الأحزاب السياسية العراقية معرضين للمساءلة القانونية، فمجرد القول إن المنصب الفلاني "إستحقاق" هذه القومية أو ذلك المذهب يعد"جريمة" عنصرية تستحق أقسى العقوبات.
لذا فإن الدعوة لتغيير النظام الحالي في العراق من برلماني الى رئاسي هي دعوة لوحدة العراق وشعبه ودعوة لتغيير الخطاب واللغة السياسية المستندة الأن الى متطلبات النظام العرقي –الطائفي الذي أسسه الأمريكان والذي سار على نهجهم من وراءهم من ساستنا لما وفره لهم من سلطة ومال، وهي دعوة ليس لإنقاذ العراق من الفوضى والحرب الأهلية حسب، بل هي دعوة لإنقاذ جميع بلدان المنطقة من الإنزلاق لأتون حروب طائفية وقومية قد لا تنتهي لعشرات السنين.





التعليقات