أغلب قادة العراق في العهد الجمهوري، حركهم الشعور بالخطر نحو نقطة واحدة؛ التصعيد.
السياسة الخارجية العراقية لم تفتقد ابدا لملامسة المخاطر الحقيقية، ما فقدته هو الحكمة في التعامل مع الاخطار. لقد كان التصعيد الخيار الاول دائما، والقاموس السياسي العراقي لم يعتمد كثيرا على سياسة الاحتواء والامتصاص. والرؤساء العراقيون، توهموا كثيراً بقوة العراق الخارقة في مواجهة المخاطر، بما في ذلك صدام حسين، إذ اعتقد خطأ ان الترسانة العسكرية كافية للتعامل مع الخطر بمنطق الحرب.
العلاقة مع الخارج غالبا ما تكون متهورة، مندفعة بخلفية المخزون العراقي من القوة والمكانة والتاريخ، وهي خلفية حقيقية، لكنها لا تكفي لمواجهة التهديد. احمد حسن البكر يمكن أن يوصف بانه الاستثناء الاهم في العهد الجمهوري العراقي، لأن عهده شهد الكثير من الهدوء على مستوى العلاقة بالخارج.
فعند الحديث عن قاسم، نجد أن التهديد الذي مثله جمال عبد الناصر واضح، وكل ما قيل عن نوايا الناصرية التوسع باسم القومية صحيح، لكن جمهورية 14 تموز احتاجت وقتها الى عقل يتجاوز مرحلتها التاريخية، زعامة تبحث عن خيارات لامتصاص الخطر وليس التصعيد ضده. لم يكن العراق حينها مؤهلا بما فيه الكفاية، لمواجهة موجة القومية التي عمت العالم العربي كله، وهددت دولا كبيرة كالسعودية، بل إنها ساعدت على اسقاط المملكة العراقية رغم قوتها. فلننظر كيف تعامل "الزعيم"، خطوته حينها تمثلت بالتحرك لاحتلال الكويت، وهو مالم يكن بصالح العراق ابداً.
المثال الاخر: كان خطر تصدير الثورة من ايران الى العراق حقيقياً، الا ان صدام حسين لم يكن في منظوره ابدا احتواء المخاطر، بل لجأ فورا الى الحرب معتمدا على عقيدة ان الاهواز جزء من العراق، ورغم ما حققه في البداية من نتائج، الا ان النهاية بعد عام 1985 لم تكن بصالح العراق، ولولا الدور الغربي لوقعت البصرة تحت الاحتلال الايراني.
لاحقا، مارست دول الخليج بعد انتهاء حرب ايران ضغوطا خانقة على العراق المثقل بالديون، لكن الاستجابة لذلك الخطر، حماقة غزو الكويت، ولم يحضر أي خيار بديل.
النموذج الاخر هو اياد علاوي، ففي ستة اشهر من حكمه، اغرق الفضاء العراقي بتصريحات مضادة لإيران، وصعد من لهجة التصعيد من خلاله شخصيا او عبر وزير دفاعه حازم الشعلان، والنتيجة ان علاوي اليوم خط احمر في أي ترشيح لرئاسة الوزراء... ولم يستطع العراق التحرر من ايران.
واخيراً، نوري المالكي اعتمد على التصعيد تجاه سوريا في 2009 وتجاه السعودية بعد 2010، بينما كان يملك الكثير من الخيارات، غير التصعيد، للتعامل مع المخاطر التي مثلها نظاما هذين نظامي هذين البلدين... النتيجة ان العراق مفكك، والمالكي اصبح اسماً غير مرغوب به من قبل اغلب الدول العربية.
ويعاني مسعود البرزاني من بعض تركة التصلب العراقية، فتصعيده الاخيرة ينم عن منهجية فاقدة للتروي، ما اثار حوله الكثير من المشكلات على مستوى علاقته "الداخلية" مع المركز، وبعض علاقاته الخارجية... وقد يؤدي هذا الى ثمن كان الكرد بغنى عنه.
وعلى عكس هذه الحالة العراقية المزمنة التوتر، كانت سياسة المملكة العراقية اكثر رصانة فيما يتصل بالسياسة الخارجية، تحيّدت ايران وتركيا وقتها، وامتص العراق النوازع السعودية، وبقي الدور الاقليمي للعراق محفوظا الى ان قامت الناصرية فاعتمدت على الثغرات والاخطاء الداخلية لنوري السعيد، فأطيح به، ليس لأنه فشل خارجيا، بل لأنه لم يلتفت بما يكفي للداخل.
لذلك، لم يكن المطلوب تفريط العراق بمكانته، المطلوب وضع قريب من كلام علي بن ابي طالب "لا تكن صلباً فتكسر ولا ليناً فتعصر"، وهو مالم يتحقق. فلم ينقص ساسة العراق الذكاء، نقصتهم الحكمة التي تعني ادراك كل ما يجب فعله للخروج بأقل الخسائر.
&