كم وصمة عار على جباهنا أن تحمل لكي نصحو من غيبوبتنا؟ عارُنا الجديد اسمه مسيحيو الموصل، فرضت (داعش) عليهم الجزية باسم الإسلام ثم طردتهم من ديارهم و هم فيها من قبل أن يُعرف الإسلام على وجه الأرض، خرجوا بملابسهم فقط من بيوتهم و كنائسهم. أما نحن فكعادتنا، لا نكادُ نصحو من نومنا العميق حتى نُسارع في تبرئة أنفسنا. نقولُ: "ليس هذا من الإسلام في شيء" لنريح ضمائرنا. لكن اسمحوا لي هذه المرة أن أغتنم فرصة انتباهتنا المؤقتة هذه، لنلقي معاً نظرةً سريعةً على أصول ما فعلته (داعش) من فرض الجزية و تهجير "أهل الكتاب" في التراث الاسلامي.

الجزية في المصطلح الإسلامي هي المال الذي يُؤخذ من "أهل الذمة"، و هم غير المسلمين الذين يقيمون في "دار الإسلام" وفق شروط معينة تُسمى "عقد الذمة"، على أن تحميهم الدولة الاسلامية ماداموا ملتزمين بذلك العقد الذي من شروطه دفع الجزية عن كل ذكر بالغ عاقل حر قادر على حمل السلاح منهم.

يَرِدُ حكم الجزية في الآية رقم 29 من سورة التوبة: (قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

هذه الآية لم تُنسَخ بغيرها، و هي واضحة صريحة لا تختلف تفاسير القرآن قديمها و حديثها من جميع المذاهب في بيان معناها، إلا في التفاصيل التي تخص طريقة أخذ الجزية مثلاً أو سبب فرضها و ما إلى ذلك. و مفادها أن الله يأمر المسلمين بمقاتلة أهل الكتاب لأنهم لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر كما يجب، اي كما ينص الإسلام عليه. و لا يحرمون ما حرم اللهُ و رسولُه كشرب الخمر مثلاً، و لأنهم لا يدينون بالاسلام الناسخ لما سبقه من الأديان.

أما عن معنى (حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ) إلى آخر الآية، فنجد في تفسير القرآن الكريم لابن كثير: "أي إن لم يُسلموا (عَن يَدٍ) أي: عن قهر لهم وغلبة (وَهُمْ صَـٰغِرُونَ) أي ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة، ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء؛ كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطروه إلى أضيقه. ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم".

و من تلك الشروط التي أشار إليها ابن كثير في تفسيره "... أن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم؛ في قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولانكتني بكناهم،... ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا،... وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق&المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً، وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين..."

فماذا يحدثُ إذا لم يدفع "أهل الذمة" الجزية المستحقة عليهم؟ يجيبنا الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية)، باب وضع الجزية و الخراج، فصل فيما يُشترط في عقد الجزية: " وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ... وَإِذَا نَقَضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَهْدَهُمْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ وَلَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا سَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَوَجَبَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ حَتَّى يَلْحَقُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَدْنَى بِلَادِ الشِّرْكِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا طَوْعًا أُخْرِجُوا كَرْهًا". و هذا في الحقيقة ما قام به رجال الخليفة المزعوم ما عدا أنهم تجاوزوا الحد بسلب أموال المُبعَدين.

هذا جانبٌ من تراثنا لا نستطيع أن ننكره. الجزية منصوص عليها في القرآن، و هي بلا شك من أحكام الإسلام التي عمل بها الرسول و الخلفاء الراشدون من بعده، و استمر تطبيقها في العصور الإسلامية كلها حتى أوقف العثمانيون العملَ بها في النصف الثاني من القرن التاسع العشر. فكيف ندَّعي بأنها ليست من الإسلام في شيء؟ أما الأحاديث النبوية و الوصايا في مراعاة "أهل الذمة" فإنما يستحقها "الذمي" ما دام ملتزماً بعقد الذمة و شروطها و منها دفع الجزية كما سبق ذكره.

نعم هنالك اجتهادات كثيرة معاصرة رأت إسقاط الجزية عن المسيحيين في "الدول الإسلامية" الحديثة، غير أن مشكلة الاجتهادات أنها تحتملُ الأخذ و الرد. مقابل كل تفسير و تأويل هنالك تفسيرات و تأويلات أخرى مضادة، و لكلٍ ما يؤيده من نصوص و أدلة. لهذا فإن "المعتدلين" و "المتطرفين" يستطيعون دائماً تبرير مواقفهم من القرآن و السنة و كتب الفقه دون عناء كبير. لنأخذ مثلاً الاجتهاد القائل بأن الجزية تسقط في العصر الحالي لأن المسيحي يشتركُ في الدفاع عن وطنه إذا دعت الضرورة كالمسلم بالضبط. يستند هذا الرأي على أن الجزية هي بدل عن الحماية و المنعة، بمعنى أن "أهل الذمة" كانوا يدفعون الجزية بدلاً عن الاشتراك في الدفاع عن "أرض الاسلام" و نظير دفاع المسلمين عنهم. لكن المشكلة هي أن علة فرض الجزية مسألة خلافية، فمن الفقهاء من قرر أنها بدل عن القتل، و منهم من قال بل هي بدل عن الكفر، و لكل قول أدلته. و هكذا يمكن لأيٍ كان أن يعتمد على أحد هذين القولين الآخرين ليخرج بنتائج معاكسة.

و ما الذي فعله الخليفة الجديد سوى أنه أحيا النصوص التي نقدسها في بطون الكتب؟

ما كان لأمثال هؤلاء أن يجدوا موطئ قدمٍ لهم بيننا مهما كان من يقف خلفهم، لولا أن أرضنا خصبة و جاهزة لزراعة التطرف. (داعش) هي بمعنى ما بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا. التراث الإسلامي مليء بنصوص هي المادة الخام التي ينسجُ منها المتطرفون، و ما جرى في الموصل هو في العمق نتيجة تقديسنا الأعمى لهذه النصوص. تقديس التراث الديني متغلغل بشدة، في التربية و التعليم، والإعلام، و القانون و في كل تفاصيل الحياة. و ما دمنا لا نعالج مشكلة التطرف في مجتمعاتنا من جذورها، فستبقى معضلة الأصولية الإسلامية بلا حل. نحن لسنا بحاجة إلى تأويلات و اجتهادات فقهية فهذه زمانها انتهى، بل نحتاج إلى بناء مجتمعات لا تضع الدين و الطائفة فوق الإنسان.