نظرت بتمعن الى وجه احمد المهنا، لأرى الرجل الذي احببت برنامجه "بين زمنين" على قناة ابو ظبي، وتحديدا في الحلقات الخاصة بعبد الكريم قاسم، هو ذاته. كان ذلك بعد اربعة اعوام او أقل بقليل من تاريخ تلك الحلقات، كنتُ ضمن الفريق الذي قاده احمد المهنا في قناة الحرة، وتحديدا في برنامج "العراق يقرر"، ارشادات عديدة تلقيتها منه، اغلبها كانت تحاصر "التمرد" المنفلت لدى شاب لم يصل بعد منتصف العشرينات، كان ضد ثوريتنا المجنونة ونحن نثور على تجربتنا العقائدية السابقة، ظل ضد ان نصطف، المهم ان نقوم بعملنا كصفحيين يلاحقون الحدث.
في اول انتخابات مطلع 2005، كان قاسيا الى حد كبير في توجيهي، مع الوقت اعتدت على ما يقوله، حتى اصبحت ادرك مدى أهمية ملاحظاته، ليكون بعد ذلك "شاقولا" اقيس به الكثير من نشاطي الصحفي، مرت تجربة الاستفتاء على الدستور ثم الانتخابات النيابية الاولى وانا مطمئن الى اني قادر على القيام بالكثير عندما يكون المهنا خلفي وخلف زملائي.

غاب المهنا بعد ان ترك الحرة، ليعود بعد عامين في جريدة الصباح الجديد، شعرت بالاطمئنان لعودته، سيكون للصحافة الحرة مكان، حرصت على المساهمة معه، وبعد ان انتقل ليؤسس صحيفة العالم كنت مع الزملاء الاخرين معه، وكأنه قدرنا. وتتالت الايام، ليترك العالم. وعندما تركت عمودي الصحفي الذي اعتدت عليه بين 2005 ـ 2010 في صحيفة الصباح شبه الرسمية، بسبب متغيرات حكومية على الصحيفة، ومنع ثلاث مقالات، قال لي اكتب في ايلاف، وكان هو قناة الوصل مع هذه الصحيفة الالكترونية في 2011...

لكن المهنا رحل في الامس، تاركا خلفه كل هذا التاريخ المشترك، ولكنه ليس الاهم، بل ان المهم فيه هو ما علمنا اياه، وكثيرة هي الامور التي تعلمتها منه مع زملاء اخرين، عمل لا مكان فيه للولاء السياسي. هو يميز دائما بين العمل الصحفي والعمل السياسي، وضرورة ان لا نتحول الى ابواق سياسية، بل ان نحافظ على دورنا المهني والمعني بملاحقة الحدث والحقائق، ليس كما تراها عيننا السياسية بل وفق ما تنظر لها عيننا السياسية.
المهنا في 2011 رافقنا في تظاهرات شباط 2011 ضد العملية السياسية المنحرفة، كان يتغنى بصوت عال "من القاهرة لبغداد تسري العاصفة" ونحن نتضاحك مازحين وجادين بذات الشعار "من القاهر لبغداد..."، لم نكن ندري ان العاصفة كانت عاصفة سوء، وان الحياة التي وهبت التغيير لم تكن جادة، فداعش اليوم تسيطر على ربوع الموصل، مدينة اشور والنبي يونس، وتقتل وتشرد من كل المكونات من تشاء ويشاء دينها... ربما لم يتحمل قلب المهنا النبيل ان يرى هذه النهاية لأمله الجميل، وهو يقول ان صدام ترك مقبرتين، واحدة التي نعرفها وهي فوق الارض، والاخرى نحسها دون ان نعرف وهي التي وفق الارض... هي كل شعب العراق.
نعم شعب العراق كله في مقبرة حيّة فوق التراب، مقبرة سمحت لداعش ان يقتربوا من تاريخنا كله ليدنسوه، وليدونوا هم تاريخنا، لكن هل يمكن ان نسمح بذلك، وفي حاضرنا رجال يمتدون من علي الوردي الى احمد المهنا؟
لا ابدا، فتاريخنا قد يكتب بعض متنه اليومي ابو بكر البغدادي، الا ان امثال المهنا اقوى من عمامته وساعته الرولكس، ومنبره العفن، في تاريخي الشخصي احمد المهنا، احد رموز حياتي وامثلتي ونماذجي هو، علامة بارزة، ايقونة تستحق ان اكتب حروفه بماء الذهب على لوحات اعلقها في جدران منزلي.
مؤلم رحيل احمد المهنا، مؤلم الى حد الموت، مؤلم بكل ما تعنيه الكلمة، مؤلم بكل ما ترك فينا من جماليات روحه المتسامحة، عقله النيّر، وكلماته التي ترن الى ان نموت في اسماعنا.
سيبقى درس احمد المهنا رفيقنا، ستبقى موضوعيته واعتداله. جئنا من مشارب متعددة ليعلمنا كيف تكون الموضوعية، ثم عندما ايقن انه ترك روحه فينا، رحل. ويح الموت كم هو سيء وتعيس وحقير.
في حياتي اناس قليلون اجد ان دموعي قليلة بحقهم، المهنا من اهمهم.
ابو زيد لم اكمل كتابي بعد، وعدتني ان تراجعه، ان تقدم لي ملاحظاتك عليه، كنت اتمنى ان اتمه وانت الى جواري... لكنك رحلت، وداعا معلمي، وداعا اقولها بمرارة.
&