مرة وانا في طريقي للهجرة بإتجاه "بانكوك" نزلت في أحدى العواصم العربية للإستراحة ليوم أو بعض يوم. وقبل أن أوفق بالحصول على سيارة تاكسي تنقلني للمدينة بعد طول إنتظار، حيث علي تغيير الطائرة في اليوم التالي، وقفت عند الرصيف فشاهدت على جدار من الأسمنت ملصقا لراقصة في ملهى بان جزءً من ساقها تحت فتحة ثوب الرقص وفوقها ملصق آخر للسيد رئيس البلاد وقد كتب فوق الملصق أمل الأمة وحارسها الأمين. قريبا من هذا الشعار شعار خط باللون الأحمر على الجدار الإسمنتي يقول "الموت لأعداء العروبة" ثمة رأئحة نتنة وعفنة تأتي من الجدار الإسمنتي وقد كتب رجال الأمن على ما يبدو: " البول هنا للحمير".

لا أعرف من رتب هذه الطبخة الإعلامية من صحافة الحائط ولكنها بالتأكيد تعبر عن إنحطاط في الذوق وتدن في الحس الجمالي والذائقة الإنسانية.

بعد أن تمعنت في هذا المشهد الإعلاني لم أعد بحاجة لكي أتعرف على سياسة البلد الإقتصادية وليس من الضروري أن أبحث في طبيعة السياسة الخارجية لذلك البلد، وأكيد لا يهمني البرنامج الوطني للدولة. فلقد قال لي المشهد الجداري كل شيء وهو أول ما واجهني بعد مغادرة بوابة المطار.

لا شك أني أراقب ما يدور في وطني منذ سنوات وكنت أكتب لإيلاف بين الفينة والأخرى فأتعبني المعلقون على المقالات لأنهم لا يستوعبون المضامين فما أن تلفظ إسم الكورد حتى يهجم عليك القراء الكورد وما أن تذكر إسم المرجع حتى يهجم عليك الشيعة وكذا يفعل السنة عندما تذكر إسم رمز من رموزهم السياسية. ولذا قررت الإنزواء إذ لا جدوى من الكتابة. ولكن وأنا أبحث بجهاز التحكم عن بعد لمشاهدة بعض القنوات الفضائية في محاولة لمعرفة حيثيات الطائرة الماليزية التي سقطت بصاروخ أوكراني أو روسي حتى دهمتني من الفضائية العراقية أغنية من أغاني الحروب البائسة، فأنتهبت إلى لحنها وكلماتها المتردية وطريقة تقديمها. والأغنية تقول ما ألتقطته من كلماتها البائسة:

"وصلوا للحلك.. نسحكهم سحك"

فجأة قفزت أمامي صورة الدكتاتور السخيف الذي بسبب سخافته قررت أن أهرب إلى أقاصي الدنيا حتى إستقر بي المقام في "بانكوك". كان الدكتاتور السخيف يتمتع بالأغاني الأكثر سخفا من ثقافته المتدنية. أغاني حروب تدفع بالأبرياء نحو الموت وتحول الهزائم إلى إنتصارات وتصور الموت حياة، وتصور جفاف الأرض فيضانا للأنهر التاريخية في ربوع الوطن المخضر فيما هو يابس السعفات مقطوع رؤوس النخيل التي كانت تشكل حزام الأمان من الريح السموم والغبار الأصفر والأحمر. لذا فعند دخول أول دبابتين لبغداد إنهار ذلك النظام الكرتوني وهرب الجيش وإنهزم بعد أن خلع ملابس الوطن الشريفة وصار يركض بالملابس الداخلية بين أزقة بغداد كي يختفون في أحضان زوجاتهم.

عندما تابعت الأغنية وأنا أتلوع من كلماتها ولحنها والأكثر من كورس المغنين من مقدمي البرامج والممثلين والممثلات مع زج الأطفال الأبرياء فيما لا يفقهونه، لم أعد بعد ذلك أن أسأل من هو رئيس جمهوريتنا الجديد ولست بحاجة للسؤال عن إسم رئيس الوزراء السابق أو اللاحق ولا معرفة من حل محل وزير خارجية مسعود البرزاني المنسحب في الدولة العراقية فالأمر لا يعني عندي شيئاً.

لو كان ثمة رئيس جمهورية يملك أقل من ذرة من ملايين الذرات من الحس والذوق لما قبل أن يصبح رئيسا لدولة تبث مثل هكذا أغان. ولو كان ثمة رئيس للوزراء يمثلك أقل من ذرة من ذرات بالملايين من الحس والذوق لما قبل أن يبقى لا في البلد ولا في المنطقة الخضراء. ولو كان ثمة رئيس برلمان أو عضو برلمان من النساء والرجال يملك الواحد منهم أقل من ذرة من ملايين ذرات الذوق والجمال لما قبلوا الجلوس على مقاعد البرلمان المفترض أن يكون المكان المقدس. لو كان لوكان لو كان.. لو كان ثمة مواطن عراقي يشعر بوطنيته وعراقيته وتاريخ وطنه ما بين النهرين لأستل خنجره وبقر عينيه كما الملك أوديب عندما قتل أباه وإغتصب أمه دون أن يدري فأفقأ عينه من شدة الندم. الندم في أن تعيش في هكذا وطن تردى به الذوق لكي يكتب وينتج ويخرج هكذا أغان دون أن يعرفنا ويقدم لنا ويحلل لنا بالوثيقة المصورة والعمق الفكري والفني لماذا تمكن عشرات الداعشيين من هزيمة جيش قوامه مئات الآلاف في مدينة الموصل ضاربا بعرض الحائط "لا تصعدين السطح رجلك محناية دلال أوي دلال" ليبدلها بأغنية "وصلوا للحلك نسحكهم سحك" وجيش داعش يعلن على الملأ ختن نساء المدينة. الفضائية التي تمثل الدولة والحكومة والبرلمان تقدم لنا سخيف الكلام وسخيف اللحن وسخيف الأخراج وسخيف الأداء والوطن مستباح الحدود منذ سنوات بدون جدار ولا سور ولا كاميرات مراقبة، وقد بلغ عدد مقاتلي داعش العشرين ألفا فيما كانوا بضعة عشرات. من سمح بعبور هذه الآلاف حدود الوطن المستباح، ومن آواهم ومن دربهم ومن باركهم من أهل البلاد وأهل العباد. كل ذلك غائب عن الإعلام. إعلام قائم على إخفاء الحقائق وغياب التحليل وعدم كشف الحقائق الموضوعية أمام عين المشاهد والمتلقي.

عندما سمعت سخيف الغناء لم أعد بحاجة لأن أسأل عن القوانين التي تحكم البلاد، إذ كيف يدخل مسلحون من مليشيا متأسسة خارج الحكم وتغتال خمسا وعشرين إمرأة وثمانية رجال بدعوى الدعارة لتكون بديلا عن القانون والقضاء. عندما سمعت سخيف الغناء لم أعد بحاجة للسؤال عن سجناء ينقلون من سجن إلى سجن فيعترضهم مسلحون من مليشيا خارج السلطة وينزلونهم من الحافلة العسكرية ويقومون بإعدامهم في الشارع الإسفلتي ليشكلوا بديلا عن القضاء وبديلا عن القانون، ويسود البلاد قانون الغاب وقانون الفوضى. لا أدري وأنا أسمع سخيف الغناء تحت وطأة أي قانون وأي دستور وأي نظام نعيش؟ هل نعيش بقانون الدواعش الإسلامي الجديد أو بقانون العشائر أم بالقوانين السماوية في غياب القوانين الوضعية. هكذا بلاد تسودها الأغاني السخيفة وأكثر من نصف البلاد تحت الإحتلال. حكومة في الموصل وحكومة في كركوك وحكومة في أربيل وحكومة في السليمانية وحكومة في الفلوجة وأخرى في الرمادي وحكومة في المنطقة الخضراء وحكومة في كربلاء وأخرى في النجف وحكومات في عشائر الجنوب والمتآمرون من أتباع الدكتاتور السخيف يعقدون مؤتمرا للتآمر على الوطن لمزيد من الفوضى والدم والدموع للعراقيات والعراقيين، ونحن لا نملك من لغة الفضاء ولغة الإعلام غير أغاني سخيفة "وصلوا للحلك ونسحكهم سحك" فيما الدواعش يصدرون قوانين ختن النساء وينقلون بالباصات السياحية المواطنين الراغبين بقضاء إجازة الصيف من الفلوجة وحماة إلى مدينة الموصل في حمام علي وتل السبت والسيد البرزاني رئيس جمهورية أربيل يحاول أن يبدي دهاء عسكريا وسياسيا فيصدر النفط ظنا منه أنه يستطيع الحصول على سبعة عشر بالمائة من الميزانية المركزية ويضيف عليها قيمة النفط المصدر فتوقف حكومة المركز دفع ميزانيته فيما إسرائيل تشتري منه النفط بقرشين فيقود أتباع عشيرته نحو الجحيم الأكيد.

كل هذه الأحداث لا نحتاج إلى تحليلها فهي تحصيل حاصل والأغنية التي تبثها الفضائية العراقية تدوي بطريقة ساذجة "وصلوا للحلك ونسحكهم سحك" والنسوة ومقدمو البرامج يردحون أمام الكاميرا وهم يرفعون أعلام العراق. كل ذلك ذكرني يوم هاجرت العراق ونزلت في ذلك المطار العربي وشاهدت سيقان الراقصة في الملصق وهي ملتصقة بظهر السيد الرئيس أمل ألأمة وحارسها الأمين فيما تفوح من الجدار رائحة نتنة كتب فوق آثارها "البول هنا للحمير" فحال هذا الشعار دون&أن أبذل جهدا لمعرفة سياسة البلد الإقتصادية والسياسية والثقافية وانا بعد سماعي ألأغنية التافهة من أغاني الحروب المقرفة من الفضائية العراقية لم أعد بحاجة لتحليل الأوضاع وفرزها لأن الأغنية قالت لي كل شيء مثل لوحة الحائط عند مدخل المطار عن الراقصة والرئيس ورائحة الجدار النتنة يوم طال إنتظاري للحصول على تاكسي!

&

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بانكوك

&