عدت مع ماكس مالوان،إلى العراق عام 1947، في البداية كان مساعدا للآثاري الكبير كامبل تومبسون مؤلف معجم النبات لدى الآشورين، ومنه عرفت أهمية زهرة البابونج التي كان يقدسها الآشوريون، كان يضع زهرة منها في عروة سترته كتعويذة، وكنت أنا أضع حفنة جافة منها في قوري الشاي كل مساء؛ فهي مجربة في تطهير المعدة وتهدئة الأعصاب! ترأس ماكس بتمويل من إحدى الجامعات الأمريكية،بعثة تنقيب في شمال العراق،هذه الأرض كانت موطن الآشوريين وتحوي الكثير من أسرار وتراث الآشوريين والبابليين والأكديين رغم ما دارت بينهم من صراعات، تناوبوا بها النصر والهزيمة! بين هذه الجبال،وفي هذه السهول الخضراء صنع هؤلاء العراقيون القدماء فصولا مشرقة من تاريخ البشرية، كان برج (آربيلو) يعني الآلهة الأربعة (ويسمونها اليوم أربيل) قد نقلت إليه أيقونة عشتار من بابل ليحف بها الكهنة في المعبد المقدس العالي على قمة الهضبة،فكان بمثابة سفارة العراقيين لدى السماء، أما مكتبة آشور بانيبال فهي أثقل المكتبات وزنا في العالم القديم، ليس لأن كتبها من الصخور، بل لغزارة الفكر والمعرفة والشعر الجميل الذي كانت تحويه! شمال العراق كان عاصمة نصف العالم، فقد امتدت إمبراطورية نينوى إلى آخر انهار الهند، ورمال الأهرامات في مصر! حكموه بمزاوجة بين السيف والكتاب، حين اعتمدوا الكتاب تقدموا ونشروا الخير والأمان والجمال، وحين أوغلوا بالسيف كبوا فكانت عثرتهم القاتلة!رحنا ننقب في آثار نمرود ونينوى. استأجرنا قطعة ارض من عجوز تدعى "نائلة" بسبعة دنانير في الشهر. كان لنا حق الحفر في باطنها شرط عدم أحداث تغييرات أساسية، وجدنا تحت هذه الأرض تحفا لا تقدر بثمن، وكنا نضحك " هذه التحف لو بيعت تجلب ملايين الدنانير، حصلنا عليها لقاء سبعة دنانير فقط، حين نسلمها للعجوز نائلة تقبلها وتضعها على جبهتها شاكرة الله على نعمته، وتسألنا بقلق، هل ستبقون السنة القادمة؟ نعم يا نائلة كيف لا نبقى وتحت أرضك المهجورة والتي كان يرعى بها الماعز،وتبول عليها الحمير، ثروات الدنيا من الذهب وما هو أهم منه؛ التاريخ والأساطير وملحمة جلجامش نفسها؟

كنا بعد الاستدلال على المكان الذي نتوقع ان تحته بقايا عهد ما، وهو غالبا ما يكون مرتفعا مقببا،تراكم فيه متهدم الأزمنة،نبدأ الحفر ببطء ببعث على الملل وبأدوات يدوية بسيطة تتطلب الصبر والدقة، كان من المفضل ان يقوم بذلك عمال من أهل الشرقاط فهم بالفطرة يمتلكون مهارة التنقيب والبحث ويمتازون بالصبر والمرح والذكاء وقد ظلوا يرافقوننا في عملنا محرزين معهم افضل النتائج، وقد تعلمت التعامل معهم ومع آخرين من قرى قريبة، فحظيت بحبهم،وكنت افرح حين يناديني أحدهم بلهجته المحببة "يا عمتي" أو "يا أمي"

كنت أعيد تركيب حطام جرار الخمر والعسل والماء لتعود كما كانت،اعتني كثيرا بوجوه التماثيل الصغيرة والمتوسطة المصنوعة من العاج أو الرخام الصلد، وأقوم بتنظيفها بدقة وعناية، كان اعظم ما استخرج في نمرود تمثال لأمير آشوري من العاج، كان جميلا سميته موناليزا نمرود، كانت ابتسامته مرحة ساخرة عكس ابتسامة الموناليزا الغامضة، يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، تحفة هائلة، كنت انظف وجهه بنفس سائل التجميل الذي انظف به وجهي، وأحنو عليه كأنه طفلي،أناغيه "أيها الطفل الآشوري المتحدر من أعماق الزمن، انطق! تكلم معي بلغتك! سأفهمك على الفور! كان ماكس يضحك قائلا:

ـ لم أرك تعتنين ببشرتك يوما، ولم تستعملي هذا المستحضر الذي جلبته من لندن، والآن تستعملينه لوجه الأمير الصغير!

وكنت أقول له ضاحكة:

ـ أنت أمير يا ماكس، ولا أثير غيرتك إلا مع أمير!

يقوم ماكس بتصنيف اللقى والآثار وتحديد زمانها ومكان العثور عليها والطبقة الترابية التي استخرجت منها. كان التاريخ يعود بين أيدينا نهرا من الغبار المعجون بنور كاشف باهر، كنت نرى أنفسنا في مرآته! ماكس يقول لي:

ـ أتعرفين يا أجاثا أنت أكثر شخص من خارج دائرة علماء الآثار معرفة بالآثار، بل صرت تتفوقين على بعض علماء الآثار في خبراتك في الآثار، لقد صار الاستغناء عنك في عملنا صعبا!

كان كلامه يفرحني ويؤلمني بنفس الوقت، هذا يعني إنني لا أستطيع ان أكرس وقتا أطول للكتابة،بينما كانت موضوعات وحبكات الروايات تتكاثر في ذهني مع كثرة سفراتي وجولاتي في أرض الشرق المفعمة بالإلهام والوحي!

كنت حين اخرج إلى الشوارع في المدينة، وأرى الناس لا هين أو مستغرقين، وفي هيئات وهموم وانشغالات،أشعر بالأسى؛ أنهم يديرون ظهورهم لماضيهم لا يعرفون عظمة حضاراتهم الكبيرة وكم أعطت للعالم، بل لا يعرفون قيمة أنفسهم، ولا ألومهم، فهم لديهم من همومهم وفقرهم وأعمالهم الشاقة ما يكفيهم! ويقول لي ماكس:

ـ مهلا، نحن نرى الحياة هنا طيبة وسعيدة لان لدينا من المال ما يمكننا لمعيشة مرفهة،هنا أهل البلد لا يملكون خبز يومهم،قد لا يرون ما فوق الأرض، كيف تريدينهم يرون ما تحتها، حتى لو كان تاريخهم وذاكرتهم؟

كنت سعيدة بآلة سينما صغيرة بسيطة اشتريتها من لندن صورت بها مشاهد قصيرة من الموصل، ونينوى القديمة،والريف الجبلي: فلاح كلداني يحرث أرضه ويمهدها لزراعة مقبلة،،آشوري يقطف عناقيد العنب ويكدسها في معصرته لتغدو خمورا ذات نكهة فاخرة كما يقولون فأنا لا أتذوق الخمور،آشوريون يغنون ويرقصون في حفلة زواج، راع كردي بشرواله الفضفاض،ولفة الرأس الكبيرة، يرتقي بماعزه منحدرات جبل إلى كوخه الذي تحفه أشجار الجوز، تركماني بزيه التقليدي يقف قرب منقلة شواء اللحم في مطعمه قريبا من جامع النبي يونس،،ويحيى الناس ضاحكا، تاجر عربي بغترته وعقاله يقف بجانب بضاعة ربما أتى بها من سوريا بينما عماله يدخلونها إلى محله الكبير، دولاب هواء في مركز المدينة يمرح به أطفال فرحون في العيد، شيخ يزيدي يقف عند باب معبده يبتسم للرجال والنساء القادمين للصلاة، رجل كهل يبيع الحلاوة بأطباق خشبية صغيرة، شاب موصلي يسير متبخترا معجبا ببذلته الإفرنجية الجديدة، وربطة العنق مع نظارة غامقة!

&