عدت هذا الاسبوع الى البحيرة الجميلة وجلست في نفس المكان الذي جلست فيه قبل اسبوع.. وفجأة يأتي الدكتور جيم الذي حاورني قبل اسابيع ونقلت حواري معه في الحلقة الثالثة.
بادرني بالسلام ثم قال: كان حوارنا السابق ساخنا أليس كذلك؟!
قلت له: جدا يا جيم.. لكنك غادرت دون أن تدعوني للتعرف عليك بشكل أعمق.
قال: لا لا دعك من ذلك.. كثيرا ما آتي هنا وكلما قابلتك سأتحاور معك إن أحببت.. لم يعد أحد يثق في العرب.
قلت له: وماذا لديك من حوار هذه المرة؟!
قال: من خلال قرآتي المتعمقة في التاريخ وجدت أنكم مزورو حقائق تاريخية.
قلت له: كيف ذلك يا جيم؟!
قال: النعرة تتحكم فيكم بشكل كبير قبل الاسلام وبعده.. لكنكم بعد الاسلام كل من يستلم الحكم يتلبس بثوب الدين ليغطي نعراته .. بينما يظل خاضعا لتلك النعرة. لذلك أنتم لم تعيشوا عصر الدولة المدنية وأنتم في القرن الواحد والعشرين لأنكم بكل صراحة لازلتم في عصر النعرة , وهو العصر الذي عاش فيه الهنود الحمر وغيرهم من القبائل التي إنقرضت حضاريا بسبب رفضها الدخول في عصر المدنية عدا من ذاب في بحر الحضارة الحديثة.
قلت: لكنك تتهمنا بأننا كنا نزور حقائق التاريخ.
قال: كنتم ولا زلتم.. وسأذكرك بالتاريخ المعاصر الذي نعيشه أنت وأنا الآن.
تتحاربون فيما بينكم حسب النعرات التي تتحكم فيكم ثم تلبسون حروبكم أردية دينية كي تورطوا العامة وتقنعوهم أنها حروب مقدسة , وكل ذلك إجترار للماضي الذي عاشه أجدادكم.. لكنكم في حروبكم الحاضرة تستخدمون الاعلام اسوأ إستخدام لجعل ذلك التزييف المتعمد وكأنه الحقيقة بعينها ولأن للصورة تأثير كبير على عقل المتلقي مع حشو الصوت الكاذب , يقع المتلقي أسيرا لذلك الزيف الاعلامي المؤدلج لخدمة نعرة تؤججها المصالح السياسية وتلبسها لباسها الديني لأنكم لا زلتم قوما إنفعاليين تحكمون العاطفة وتستهينون بالعقل فيسهل السيطرة عليكم والتحكم فيكم عن بعد بريموت عاطفي له شاحن من نعرة وغلاف من دين. والغريب أنكم تفضلون الموت بكل بسالة من أجل دين النعرة اكثر من الموت من أجل دين الفطرة... لذلك فإن أغلب المتحكمين في عقولكم بإسم الله: عبيد النعرات وليسوا عبيد الله... والخاضعين لهم منكم: عبيد الشياطين!
&سمسار الدين صار يستهين بعقولكم الى درجة انه يخطب على المنبر في مسجد الله ويكذب على العشرات أمامه مستندا على حقائق الدين المزورة دون خجل ليؤجج صراعا يخدم مصلحة سياسية ذات جذور لنعرة.
صرخت بقوة.. با جيم.. يا هوووه.. ماذا تقول.. هل جننت؟!
رد بهدوء: إمنحني الفرصة كي أكمل كلامي لو سمحت.. واستمر بحماس كبير:
قلت لك أن تاريخكم المعاصر إجترار لتاريخكم القديم المزور.
قلت له: كيف؟!
قال: سأطرح لك مثالا.. ألم تصفوا الذين رفضوا دفع الزكاة للخليفة أبو بكرالصديق بالمرتدين وأجزتم حربهم وقتالهم؟!
قلت له: نعم.. هم كذلك!
قال: فلم لاتصفون الذين حاربوا الخليفة علي ابن ابي طالب ورفضوا خلافته بالمرتدين أيضا؟!
قلت له: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم!
قال: وماذا عن الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان أيكونون ثوارا أم مرتدين؟!
&وماذا عن علاقتكم بالمسيحيين .. ألم يذهب بعض المسلمين بأمر رسولكم الى النجاشي واللجوء اليه طلبا للعدالة والأمان عنده.. ولا زلتم حتى الآن تذهبون الى ديار المسيحيين طلبا لنفس الأمر؟!
وهل يذهب أحد الى ديار المسلمين طلبا لعدالتهم وحريتهم وأمنهم.. وهم يجزون رقاب بعضهم البعض؟!
قلت صارخا: كل تلك الأسئلة.. لا أعرف لها جوابا!&

قال: ألم اقل لك أنكم تزورون الحقائق التاريخية حسب هواكم وتخضعونها لنعراتكم وليس لدينكم الذي تدعون التعبد لله به.
ثم قال بغضب وصوته يرتفع: أما أن يكون كل الذين حاربوا الخلفاء مرتدين.. أو لا يكونوا.. ورفع سبابته في وجهي وقال: والله لو أريد الإستمرار لأمطرك بوابل من التناقضات التي تفضح تزويركم للتاريخ!
قلت له: ولم لا تقول يا جيم أنها السياسة وليست النعرات ولا الدين؟!
قال: بكل تأكيد.. أساس الخلافات في أصلها سياسي.. لكنكم كعرب قوم تتحكم فيكم النعرة وخاصة القبلية.. بل وكمسلمين بشكل عام.. وسأعطيك أمثلة.
أليس في اكراد العراق سنة وشيعة؟!
قلت له: بلى.
قال: لانراهم ينقسمون الى قسمين مع عرب العراق سنة وشيعة.. لأن نعرة العرق أقوى من نعرة الدين.
قلت له: لكن العرب العراقيين إنقسموا سنة وشيعة ولم توحدهم نعرة القبيلة والعروبة.
ومشكلتهم: أن السنة لايريدون أن يتحرروا من عقدة سحر الجلاد وسادية السيطرة.. والشيعة لم يتحرروا من عقدة دور الضحية وماسوشية تعذيب الذات.
يتحدث السنة عن حاجنهم الى الحرية ويحنون الى أيام الدكتاتور كي يعود.. ويدعي الشيعة إقتداءهم بثورة الحسين ولايتعاملون مع واقعهم كثوار.&&
قال: غير صحيح.. سنة العراقيين وشيعتهم يرفضون الانقسام بينهم كعرب , لكن القوى السياسية المؤثرة تفرض عليهم أن يكونوا منقسمين مذهبيا , بعد أن تم تغذية النعرات القبلية بينهم وإقناع العرب السنة بأنهم الأحق بالحكم حتى ولو كانوا الأقلية وبرغم الانتخابات التي يختار فيها العراقيون حاكمهم... إلا أنه يتم ترسيخ مفهوم أن الشيعة العراقيين صفويين ومجوس وليسوا عربا نكاية بالفرس علما أن علماء المذاهب السنية أصولهم فارسية وليسوا عربا بينما أصل المذهب الشيعي عربي قح. اي أن المغذي الأخطر لمحاولة تقسيم العراقيين كردا وعربا هو النعرة القبلية ملبسة بثياب الدين لتكون الحرب أكثر قدسية لدى الطرفين كلما أريد إشعالها.
وعندما ذهب صدام لمحاربة الايرانيين , أعاد اجترار الماضي وسمى حربه معهم بقادسية صدام وحاربهم بجيش ربما أغلبه من الشيعة , ولم يجرؤ على تسمية الحرب بالشيعية السنية , لأنه يحكم شعبا أغلبه من الشيعة.
قلت له: لكن السنة العرب يشتكون من إقصاء حكومة المالكي الشيعية لهم.
ضحك ساخرا وقال: إذا كان السنة العرب يعانون من إقصاء وظلم في ظل حكومة منتخبة وهم يشاركون في الانتخابات النزيهة وفي الحكومة ببعض الوزراء وفي البرلمان بالكثير من المقاعد ولهم كامل الحرية المذهبية والفكرية وحرية الرأي.. فماذ يكون مصير الأقليات المذهبية العربية في البلدان العربية الأخرى... حيث ليس لهم شيء يذكر مما يتمتع به سنة العراق؟!
&قلت له: يا جيم.. لكن ما يحرق المنطقة هو النعرة الطائفية الدينية.. المساجد تهدم برغم أن المسجد هو نفس المسجد أكان سنيا أو شيعيا , وكنائس المسيحين ومعابد الأقليات الأخرى يتم هدمها وإزالتها كحرب طائفية لو إستمرت فلن يتوقف حدها عند العراق وسوريا وستلتهم الجميع.
قال: أؤيدك أن النعرة الطائفية الآن هي الوسيلة لإحراق المنطقة لكن الاختلاف الديني ليس المشكلة في البداية.. ألم يتعايشوا كل القرون الماضية برغم اختلافاتهم الدينية والمذهبية ؟!
المشكلة: سياسية بالطبع.. وعن طريقها يتم تأجيج نعرة التسلط التي لا تتضخم الا عند العرب أكثر من غيرهم , لكن الدين أستخدم عبر سماسرته الذين يعملون لصالح قوى تحركهم كي يضفي على صراع النعرات قداسة. فلو كان العرب يعيشون عصر المدنية لكانوا تجاوزوا عصر النعرات سواء كانت قبلية أو عرقية أودينية أو مذهبية.
العرب بالفصيح: ليسوا أمة متحضرة كي يتجاوزوا عصر النعرة وحب التسلط.. أليسوا بالذين يقولون أن الديموقراطية: كفر ليسود الإستبداد بينهم؟!
العرب: قوم يتلذذون في حكم الجلادين.. ربما لأن في الجين العربي تشوه ماسوشي يتلذذ في استعباد الآخر له.. ويكرهون الحرية!
أرجعت ظهري الى الوراء وأسندت رأسي على يدي وقد شعرت بشيء من الإرهاق وقلت: وبعدين معك.. يا جيم؟!
قال بحيوية زائدة: استمع الي جيدا.. مشكلتكم أنكم أمة ماذا.. تعلمون اولادكم في المدارس أن يسألوا ب ماذا.. وليس ب كيف.. و لماذا!
قلت: وما الفرق بين ماذا.. وكيف.. ولماذا؟!
قال: ماذا , سؤال.. يجعل الطالب مستسلما للتلقين والحفظ والخضوع للمعلومة دون تفكير.
لكنك عندما تعلم الطالب في البيت والمدرسة أن يسأل ب كيف.. ولماذا.. فإنك تعوده على أن لايأخذ الكلام والحشو كيفما يراد لذلك الكلام والحشو أن يسكن في عقل الطالب.. وانما تعلمه كيفية التساؤل بما يقنع عقله.. وعندما يجيد طرح السؤال المنطقي فإن الإجابة الاقرب إلى المنطق ستتجه اليه وسيملك القدرة على رفض الحشو والتلقين الذي يسخره كأداة في يد المؤدلجين وسماسرة الدين وتجار الحروب ومزوري التاريخ... وأستدار بوجهه نحو شاطيء البحيرة وزفر زفرته بألم وكأنه ذو أصول عربية وقال:
علموا أولادكم أن يسالوا: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا.. لماذا حدثت الصراعات القديمة.. وكيف نعرف الحقيقة..؟!
دعوهم يتعرفون على الوجه المغيب للحقائق التي زيفها تاريخكم كي ينطلقوا نحو المستقبل ومعهم مفاتيحه.. لأن العيش في كنف حقائق التاريخ المزيفة: لايمنح العقل فرصة الانطلاق في فضاء الحرية.
إن أولادكم يبيعون أرواحهم للموت الرخيص فداء للتاريخ المزيف!&
تذكرت الصديق الكاتب نبيل المعجل.. عندما أخبرني قبل سنوات بنفس الكلام الذي قيل له من إدارة مدرسة أبناءه في النمسا.. حيث قالوا له: نحن نربي اولادنا على السؤال ب لماذا وكيف وعليكم أن تعودوا اولادكم على ذلك.. ثم قلت لجيم: الى هذه الدرجة ستغير كيف.. وماذا.. وجه حاضرنا وتنقلنا نحو المستقبل الأكثر إشراقا؟!
قال لي وهو يضحك ويغادرني مودعا : جربوا أن تعلموا ابناءكم السؤال بكيف.. ولماذا.. وجنبوهم السؤال ب ماذا.. ستجدونهم يرفضون زيف المزيفين.. وحشو المشعوذين.. وفكر الظلاميين.. وكذب المستبدين وكل من يتاجر ويسمسر بمستقبل أجيالكم.
قلت له وهو يبتعد: ليتك قلت لنا يا جيم نظرية لماذا.. وكيف , قبل هذا الوقت .. إنها سهلة جدا وسأجربها الآن:
كيف يتطور العرب؟!
ولماذا وصلوا الى هذا المستوى من الانهيار القيمي والحضاري المتخلف؟!
[email protected]
&