يتبيّن كلّ يوم، أكثر فأكثر، حجم الجريمة التي ارتكبتها اسرائيل في غزّة. قتلت المئات معظمهم من المدنيين ودمّرت احياء بكاملها على نساء وأطفال وعجائز. من استطاع الخروج من غزّة من الصحافيين الأجانب يعطي صورة عن المأساة التي يعيشها القطاع، وهي مأساة لن تؤدي سوى إلى زيادة الأحقاد فيه وتعميقها.
ليس بالقنابل يمكن ايجاد حلّ في غزّة. كلّ ما تفعله اسرائيل التي عملت إلى الآن كل ما تستطيع من أجل زيادة الفقر والبؤس في غزّة واحراج السلطة الوطنية الفلسطينية وضرب ما بقي لديها من صدقية، هذا إذا كانت بقيت لديها صدقية، يتمثّل في المحافظة على الحلقة المقفلة والدوران فيها إلى ما لا نهاية.
لن تكسر القنابل التي لا تجلب سوى القتل الحلقة المغلقة التي اسمها حلقة العنف المتبادل. على العكس من ذلك، ستعزّز كلّ ما من شأنه زيادة العنف وزرعه في نفوس مواطنين فلسطينيين فقدوا كلّ أمل في حياة كريمة في يوم من الأيّام.
لا شكّ أنّ “حماس” عملت كلّ ما تستطيع من أجل التصعيد، خصوصا أنّه لم يعد لديها ما تخسره بعدما تبيّن أنها لا تمتلك مشروعا سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا قابلا للحياة. المشروع الوحيد الذي تمتلكه يصبّ في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني، وهو مجتمع منفتح تاريخيا. سعت إلى الآن نحو مزيد من التخلّف والتزمت في ظلّ انتشار فوضى السلاح في غزّة التي تحوّلت “إمارة اسلامية” على الطريقة الطالبانية.
ما شهدناه وما زلنا نشهده في غزّة نتيجة مباشرة وطبيعية في الوقت ذاته لإنسداد الأفق السياسي. يحصل ذلك في غياب قوى عالمية، على رأسها الولايات المتحدة، تعمل بشكل جدّي على البحث عن مخرج ما وكسر الحلقة المقفلة.
هناك حكومة اسرائيلية تعتقد أنّ في استطاعتها ابقاء غزّة محاصرة إلى ما شاء الله. لا تعرف هذه الحكومة التي سدّت عن سابق تصوّر وتصميم كل أمل في تسوية معقولة ومقبولة أنّها تلعب اللعبة التي تريدها “حماس” ومن يقف خلفها. هناك من يقف خلف “حماس” ويشجّعها على السير في الخط الذي تسير فيه والذي يصبّ في خدمة حكومة بنيامين نتانياهو. إضافة إلى ذلك، هناك بكلّ بساطة نقطة التقاء بين “حماس” والحكومة، التي هي أكثر الحكومات تطرّفا منذ قيام دولة اسرائيل. تتمثّل هذه النقطة في الرغبة& بالتخلّص من السلطة الوطنية الفلسطينية.
لا تؤمن “حماس” بأيّ عملية سلمية من أيّ نوع كان. لم يصدر عنها، أقلّه إلى الآن، أنّها تستوعب معنى المشروع الوطني الفلسطيني القائم على حلّ الدولتين. ربّما تستوعبه أكثر من اللزوم، كونه يوفّر أملا ما بالمستقبل للفلسطينيين. كذلك، لا تريد حكومة نتانياهو& أيّة تسوية باستثناء تلك التي تكرّس الإحتلال لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. وهذا يعني على الصعيد العملي استبعاد حلّ الدولتين والقضاء عليه نهائيا.
لا أفق سياسيا للتصعيد في غزّة وذلك على الرغم من كلّ الكلام الحماسي الذي يصدر عن كثيرين من الذين يعتقدون أنّ لا قيمة للإنسان الفلسطيني. هؤلاء الذين يتشدّقون بـ”المقاومة” وصواريخها وبالأنفاق التي حفرتها “حماس” لا يعرفون أنّ اسرائيل مغرمة بممارسة إرهاب الدولة وتشجيع التطرّف بكلّ انواعه. هذه اللعبة هي لعبتها المفضّلة وهي تصبّ في سياسة أسّس لها ارييل شارون وهي مبنية على غياب الشريك الفلسطيني الذي يمكن التفاوض معه بغية الوصول إلى تسوية.
من حسن الحظّ، لا يزال هناك مكان لصوت العقل والمنطق. يقول صوت العقل والمنطق أنّ هناك بديلا من التصعيد وأنّ لا مفرّ في نهاية المطاف من العودة إلى السياسة، أي إلى التفاوض.
ما وصل إليه الوضع في غزّة نتيجة طبيعية لعدم وجود حكومة اسرائيلية تريد اعتماد المنطق بدل تشجيع التطرّف. اضافة إلى ذلك هناك في واشنطن من رفض منذ ما قبل وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض أيّ نصيحة من أي نوع كان في شأن أهمّية التوصل إلى تسوية في الشرق الأوسط.
صوت العقل والمنطق كان صوت الملك عبدالله الثاني الذي تحدّث في الكونغرس في العام ٢٠٠٧. شدّد أمام الشيوخ والنوّاب على ضرورة التوصّل، اليوم قبل غد، لحلّ يقوم على خيار الدولتين يوفّر للشعب الفلسطيني ممارسة حقوقه المشروعة المعترف بها دوليا.
لم يتغيّر شيء منذ العام ٢٠٠٧. لا تزال الإدارة الأميركية تتفرّج على ما يدور في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، لا تزال اسرائيل تراهن على "حماس" وكلّ أنواع التطرف من أجل متابعة سياسة تعتقد أنّها ستؤدي إلى الغاء الشعب الفلسطيني. هل هناك من يظنّ أنّ في استطاعته إلغاء شعب؟
في ٢٠١٤، لا يزال صوت العقل والمنطق، صوت عبدالله الثاني ابن الحسين يقول& أن "ما يحدث في غزّة يجب أن يدفع في اتجاه العمل لتهيئة الظروف لإعادة الزخم إلى عملية السلام وسدّ الفراغ القائم، وذلك من خلال استئناف المفاوضات التي تعالج جميع قضايا الوضع النهائي، كي لا تبقى المنطقة عرضة لمزيد من العنف والتوتر والإحتقان".
هل من يريد أن يسمع؟ المؤسف أنّ ليس من يهمّه الإستقرار في الشرق الأوسط. إلى اشعار آخر هناك من يهمّه التصعيد وزيادة التطرف والإستثمار في العنف. هذه سياسة قصيرة النظر يمكن أن تخدم الإسرائيلي في المدى المنظور، كما يمكن أن تساعد "حماس"& في الخروج من أزمتها الداخلية التي تحاول تصديرها إلى مصر والضفة الغربية. اسرائيل تستثمر في "حماس" و"حماس" تستثمر في الجنون والإجرام الإسرائيليين!
قد يكون بعيدا اليوم الذي ستكون فيه عودة إلى صوت العقل والمنطق وإلى الإعتراف بأنّ لا بديل من المبادرة المصرية التي تؤيّدها الأردن. لم يعد السؤال هل يكون وقف لإطلاق النار. السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة ما الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون والإسرائيليون قبل التوصل إلى هدنة جديدة. هذه الهدنة قد تكون بداية لكسر الحلقة المقفلة، كما قد تكون محطة في طريق جولة جديدة من القتال... الكثير سيعتمد على ما إذا كان هناك من يريد الإستماع إلى العقل والمنطق والإعتراف بأن "حماس" لن تسقط النظام في مصر وأن اسرائيل لن تكون قادرة يوما على الغاء الشعب الفلسطيني أو التخلّص منه.
&