لم يكتفِ مشعلو حرائق الحروب بتدمير النسل والحرث والعمران والإنسان والحيوان في سوريا؛ فاتجه هؤلاء لنهب بلاد الشام وتفريغها من الآثار التاريخية النفيسة والاتجار بها في اسواق العالم حتى وصل الامر حدّ قلع ركائز الاعمدة الرومانية في المدن القديمة مثل مدينة تدمر وتحميلها في شاحنات كبيرة ومعظمها آثار رومانية ظهرت في اسواق اوربا واميركا وصارت تباع بصورة علنية في مزادات العالم دون ان يحرّك احد ساكنا.
ومع ان تدمر الحضارة السورية& قد عُدّت من المدن ذات الاهمية التاريخية وادرجت ضمن قائمة التراث العالم العالمي المتميز من قبل منظمة اليونسكو، لكن مسؤولي تلك المنظمة لايستطيعون السيطرة على الكم الهائل من المسروقات في ظل الفوضى العارمة التي تعجّ بها سوريا وتنامي العنف الى مستويات خطيرة بحيث شلّت نشاط اليونسكو الى حدّ كبير ولم يعد بمقدورها مراقبة عمليات السلب والنهب امام هذا العنف الواسع، فهناك عمليات محكمة التنسيق والتي تشارك فيها منظمات عالية التنظيم وكارتلات من المهربين باعداد هائلة تشكل مافيات تنتشر وسط سوريا وفي جوارها ( لبنان وتركيا والعراق والاردن ) وهناك مسوّقون يتنامون بأذرع اخطبوطية في معظم انحاء اوربا لترويج البضائع الاثرية وعرضها على الاثرياء ومقتني هذا النوع من المواد المربحة في مزادات العالم بشكلٍ علني واحيانا في الخفاء بعيدا عن انظار الانتربول والمنظمات الثقافية الراعية الحافظة للآثار الانسانيّة.
هؤلاء المهربون وناشطو تجارة الآثار لديهم فاحصون مهرة متمرسون لفرز اللقى الاثرية الاصلية عن المزيفة& لانهم يتعاملون ايضا بالسلع غير الاصلية ويمارسون الخديعة وتضليل عقول من يريد اقتناء مثل هذه الاثار وبيعها على انها اصلية قديمة صنعتها ايدي الرومان والفينيق وبذلك يحوزون على مبالغ خيالية وأرباح بأرقام فلكية عن طريق الغشّ والخديعة والتضليل.
في سوريا اليوم يمكنك ان تشاهد مجموعة من اللصوص يرسلون فرقا من العمال والخبراء الأثريين مجهزين بالآليات وعُدَد الحفر اليدوية كالمعاول والفؤوس لتعمل في المواقع الاثرية وتحفر في اعماق الارض وتستخرج الكثير من الأواني والعملات الذهبية والفضيّة والاختام التي كان الاولون يستخدمونها وهناك من يقايض هذه اللقى بالسلاح كي تشتعل بلاد الشام اكثر فأكثر وآخرون يقومون بتسريبها خارج البلاد ابتغاء المال وتدويره ليحرّك ماكنة الحرب ويزيد من تأجيج النار وهناك من يتحيّن الفرص لسرقة المعروضات الاثرية من صالات المتاحف والاّ ماذا نفسر ان ثلث المتاحف السورية قد تم نهبها اضافة الى سرقة اكثر من (16 ) موقعا اثريا مهمّا في عموم سوريا حيث يقدر المختصون قيمة المواد الاثرية المسروقة بحوالي مليار وربع المليار جنيه استرليني ( اذا قايضنا قيمة هذه النفائس بالمال ) مع انها تضاهي كثيرا الثروات المالية فثروات الارث الحضاري لايمكن ابدا تقييمها بكلّ كنوز الدنيا.
والغريب في الامر ان الشرطة الدولية غالبا ماتـنبّـه اليونسكو وتحذر السلطات السورية والجوار السوري عن عمليات التهريب باعتبارها جريمة حرب خطيرة لابدّ ان يعاقب مرتكبها أشدّ العقوبات لارتباطها بتاريخ وإرث البلاد، لكن تلك العمليات لاتلقى ردعا حازما بسبب ظروف الحرب وتفاقم الانفلات الأمنيّ اذ من السهل تمريرها وإخراجها للدول المجاورة حتى عبر المنافذ الحدودية، فاية مشكلة يتلقاها المهرّب يتم حلّها بسهولة عن طريق الرشوة لحرس الحدود ورجال الجمارك وبذلك تذهب كل مساعي الانتربول للحدّ من سرقة ونهب الاثار ادراج الرياح حتى وصل الامر ان القيّمين من حافظي الآثار وموظفي المتاحف المخلصين قد اضطروا لإخفاء القطع الاثرية النفيسة كالعملات الذهبية القديمة والاختام المهمة في البنوك والأقبية الخفيّة واحيانا يحتفظون بها في بيوتهم خوفا من تعرّضها للنهب.
وقد لانكون مغالين اذا ذكرنا ان سوريا ستكون مركزا لأسوأ عمليات تهريب للآثار في منطقة الشرق الاوسط طالما بقي الوضع الامني في أشد حالات انفلاته فما زال العنف والدم هو سيّد الموقف حتى اصبح العراق هو الاخر يحذو حذو شقيقته سوريا ويكون عرضةً وساحة مشاعة للنهب والسرقات الاثرية في ظلّ دولة داعش التي اصطنعها ابو بكر الالفية الثالثة وأنشأ دولة الخلافة في الشام وفي أجزاء واسعة من أراضي العراق.... تماماً كما رأينا قبلا بأم اعيننا مادار خلال الايام الاولى للغزو الهمجي المشين على بلاد الرافدين في نيسان من العام /2003 وضياع عشرات الآلاف من كنوزنا العراقيّة الضائعة في مشارق الارض ومغاربها حينما تم نهب المتحف العراقي وتفريغه من كلّ أثَرٍ نفيس.
إذ لازال الصراع الدموي قائما في بلاد الياسمين& سوريا التي تعتبر مهدا للحضارات ومنبتا لأمجاد الانسان المتحضّر وجذرا لأولى بوادر الرقيّ الحضاري؛ غير ان كنز هذا البلد من موروثاته النفيسة اصبح مضاعا مدمّرا وعرضةً للنهب والاتجار به في شتات الارض كلها ويبدو ان ماضي هذا البلد العريق في طريقه الى الزوال تماما مثلما يتمزق حاضره اليوم بسبب الصراع المدمر دون اية بارقة أمل في انتهائه على الامد القريب على الأقل.
ومن المعروف ان هناك ستة مواقع اثرية مهمة جدا وقد صنّفتها منظمة اليونسكو بانها مواقع مهددة فعلا بالانهيار وفي طريقها الى الزوال اذا بقي الصراع مستمرا وهذه المواقع هي : دمشق القديمة وحلب القديمة ومدينة بصرى وقلعة الفرسان ومدينة تدمر وأخيرا القرى القديمة الواقعة شمال سوريا اضافة الى مواقع اثرية اخرى مثل " كهف الدماء " الذي يقع في جبل قاسيون حيث تشير كتب التاريخ الى واقعة اول جريمة قتل في المعمورة عندما قتل قابيل اخاه هابيل ويبدو ان هذا الكهف المدمى مازال ينزف شلالات دم في مهد حضارات العالم في الشام العزيزة ناهيك عن الخراب الهائل الذي احدثته الحرب التي طالت كثيرا تلك المواقع التي اشرنا اليها اذ مازالت هذه الحرب مستعرة جدا رغم مرور اربع سنوات على أوارها المتأجج ولاتوجد اية بارقة أمل لأطفائها على الاقل في الوقت الحاضر.
وفي حلب الشهباء تم تدمير معظم سوقها الاثري واحترقت غالبية دكاكينه وخاناتهِ ومرافقه الاخرى& في سبتمبر من العام / 2012 ولم تعد تلك الابواب الخشبية العتيدة لدكاكينه تفتح مصاريعها للزبائن والمتسوّقين الاّ لماما؛ ولم يعد في حلب القديمة ذلك الشريان الاقتصادي الذي يدير معظم الاقتصاد السوري اذ& كلنا يعلم ان هذه المدينة مع عتادتها وإرثها الموغل في القدم كانت ايضا المحور الاقتصادي الذي تعتمد عليها سوريا في التجارة والصناعة وتغذية الاقتصاد وتدوير الحرف وتحريكها لاسيما الصناعات النسيجية والازياء وتجارة الاقمشة بعد تصنيعها في حلب نفسها.
اما قلعة حلب وهي المعلم البارز فيها فقد غادرتْه وفود السياح الذين كانوا يوما ما يقصدونها قبلة للبهاء والعراقة اذ تعرّضت هي الاخرى لاضرار جسيمة بفعل القذائف والرصاص الاخرق الطائش من لدن كل الاطراف المتنازعة وكذا الحال بالنسبة لمئذنة الجامع الامويّ التي دُمّرت في ابريل من العام /2012 أيضا.
وكل دعوات منظمة اليونسكو من خلال لجان حفظ التراث العالمي في المنظمة المذكورة ذهبت ادراج الرياح لسبب بسيط جدا وهو ان أذان أمراء الحرب ودعاة العنف صمّاء مغلقة تماما لاتتحسس نداءات الاستغاثة وعويل الاوجاع لهؤلاء الضحايا الكثر من البشر؛ فكيف بها تتأثر لأثَر تاريخي مهما كان ذا اهمية حضارية؟؟! ففي الحروب الطاحنة الطويلة الامد يصبح ضمان رعاية المواقع الاثرية مثار سخرية وتندّر طالما بقي صليل السيوف هو الاكثر صخبا.
أكاد أرثي للعاملين في يونسكو الامم المتحدة وللسيدة ايرينا بوكوفا / المديرة العامة لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو ) فقد بحّ صوتها وضاعت نداءاتها وامّحت امام عويل القذائف وضجيج الصواريخ المدمرة فلا احد يصغي لصوت العقل والضمير حين تقذف المدافع حشواتها من القنابل المدمرة وتدوي البراميل الانفجارية وتدمر النسل والحرث والزرع والضرع وحتما ستكون نداءاتها مثار سخرية واستهزاء الجهلة رعاة الحروب المنتفعين ببقائها، فمن يأبَه للتنديدات الدولية ومن يسمع اصوات الحق الخافتة اذا كانت جولة الباطل عبارة عن دويّ هائل اجتمعت فيه الصواريخ والقنابل والبراميل المتفجرة وانطلقت دفعة واحدة لتدمر الاخضر واليانع واليابس على السواء، فنحن امام قتلة متمرسين يزيدون من سفك الدماء مثلما يعمدون الى تدمير المدن التاريخية والحواضر الزاهية العتيدة باحترافية مقصودة وعن سبق اصرار ويكاد يكون ممنهجاً، والاّ ماذا نفسّر قيام الطائرات السورية المقاتلة التابعة للنظام السوري نفسه بقصف مركّز عنيف على قلعة الحصن في محافظة حمص وسط سوريا والتي يعود تاريخها الى القرن الثاني عشر الميلادي وتعدّ من أعرق القلاع في العالم، حيث احالتها حجارةً وترابا تذروه الرياح بعد ان انهار سقف القلعة انهيارا يكاد يكون تاماً وأحدثَ فتحات فيه فصار حطام بنائها اكواما مليئة بالأنقاض.
لم يكتفِ المقاتلون بكلّ أصنافهم وألوانهم القاتمة بتدمير الانسان السوري وقتله وتهجيره وتجويعه، انما عملوا على محو جذره التاريخي وعمرانهِ وسحق ماضيه العريق مثلما يعملون على نسف حاضره ومستقبله، فماذا تبقّى اذن طالما بقي الحاضر دما نازفا ممطراً حمما ولهبا حارقاً وتجهّمَ وجه المستقبل وصار قاتماً بظلمتهِ الحالكة وتحطّم الماضي بفؤوس ومعاول عتاة الهدم والتخريب؟!

[email protected]
&