من مفكرة سفير عربي في اليابان

&تعاني منطقة الشرق الأوسط منذ بدء الثورة الثيولوجية الإيرانية، من صراع ديني، مذهبي، طائفي، مقيت، سيؤدي لتفتيت منطقة الشرق ألأوسط لدويلات عرقية، طائفية، فوضوية، ومتخلفة، والذي كان حلم الدولة الصهيونية. والذي ناقشه وأكده المؤتمر الصهيوني العالمي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، لحماية إسرائيل، بحلم تفكيك دول المنطقة لدويلات طائفية، عرقية، صغيرة، وضعيفة، ومتحاربة. ولكن كما قالها القائد الألماني فون رون:& "لا أحد يأكل من ثمار شجرة اللاأخلاقيات بحصانة". والجدير بالذكر بأن فون رون هو صديق الزعيم الألماني بسمارك، الذي وحد الدولة الألمانية، ولكن في نفس الوقت زرع فيها بذور دمارها، لتنتهي بدمار ألمانيا، في الحربين العالميتين، الأولي والثانية. فمع أن إسرائيل لعبت دورا في الواقع الحالي للشرق الأوسط، ولكن في نفس الوقت بدأت تدفع الثمن، فلا أحد يقطف ثمار شجرة اللاأخلاقيات بحصانة. فقد وصل المتطرفون إلى عقار الصهيونية، ليختطفوا ويقتلوا ثلاثة من شبابها، وليؤدي ذلك لحرق وقتل الصهاينة شاب عربي فلسطيني، ولتبدأ دورة جديدة من الرعب في قطاع غزة، ولكن في نفس الوقت، في قلب إسرائيل نفسها هذه المرة. ويبقى السؤال المحير: هل نحتاج لنظرة تفكير عملية واقعية لموضوعي الدين والحياة في منطقة الشرق الأوسط؟ وهل فعلا مهم تطوير ثقافة دينية تجمع بين الروحانيات السماوية، وأخلاقيات السلوك، والواجبات الحياتية، لمنع اختلاطات سوء فهم السياسة والدين، وذلك لمنع خلافات دينية مذهبية طائفية مدمرة؟ وفي الوقت الذي تتمزق دول الشرق الأوسط، بفضل الخلافات الدينية والمذهبية الطائفية، لنسأل: كيف يتعامل الشرق ألأسيوي مع قضيتي الدين والحياة، لتلعب الفلسفة والثقافة الدينية دورا في التناغم، والتنمية، والبناء، لا في التفرقة، والتخلف، والدمار؟
&لنحاول عزيزي القارئ أن نناقش الإجابة على هذه الاسئلة من خلال كتاب ياباني، بعنوان، "الزن" والثقافة اليابانية، كتبه المفكر الياباني، دايستز تي سوزوكي. يبدأ الكاتب بمقدمة يقول فيها: "الزن، هي نتاج الفكر الصيني بعد تواصله مع الفكر الهندي، من خلال التعليمات البوذية، التي انتشرت في الصين، في القرن الأول الميلادي. وقد كانت هناك مظاهر في البوذية، لم يستسغها شعب المملكة الوسطى، فمثلا الدعوة للتشرد، وانكار الحياة، والتهرب من المسئوليات الدنيوية، في الوقت الذي اثار مفكرو الصين الفلسفة البوذية العميقة، وجدليتها الرصينة الحاذقة، وتحليلاتها وتوقعاتها النافدة، وخاصة فلاسفة الطاوية. فلو قارنا الشعب الصيني بالشعب الهندى، نجد بأن الشعب الصيني ليس متعلق ذهنيا بشدة للفلسفة، بل هو شعب عملي، ومتفاني لقضايا العالم الذي نعيشه، ومرتبط بالحياة على سطح الكرة الأرضية، وليس متعلق بالسماء."
فمع أن الذهن الصيني استنار من الطريقة الهندية في التفكير، ولكنه لم يفقد تلامسه مع تعددية الأشياء، فلم يهمل أبدا الجزء العملي والواقعي من الحياة اليومية. وهذه الخصوصية النفسية الوطنية أو العرقية، أدت لتحول البوذية الهندية إلى بوذية "الزن" في الصين. ومن أوائل الأمور التي حققتها ثقافة الزن في الصين، بعد جمع قواها، هو تأسيس نوع خاص من حياة الرهبنة. لتتحول رهبانية الزن لهيئة مستقله، ومقسمه لعدة إدارات، كل منها له مكتب خاص لخدمة المجتمع. ومن المظاهر الهامة لهذه المؤسسة، هي أساسيات الديمقراطية الشاملة، فمع أن المسنين لهم احترامهم الطبيعي، فجميع أعضاء هذه المؤسسة يعملون بالتساوي في جمع الطاقة، وزرع الاراضي، وجني أوراق الشاي الأخضر، كما تشارك قياداتهم في هذه الجهود، في الوقت الذي يقومون بتوجيه طلابهم للفهم الصحيح لفلسفة الزن. وهنا الاختلاف عن البوذية الهندية، فرهبان الزن لم يكونوا فقط ديمقراطيين، بل أيضا كانوا مستعدون للمشاركة في مختلف النشاطات الحياتية، كما كانوا يملكون ذهنا اقتصاديا وسياسيا. واستوعبت الزن ايضا ميتافيزيقية تعليمات الفلسفة الطاوية، وطورتها بالتوقعات البوذية، ولكن تجاهلت الزن في التطبيقات الحياتية تماما المذهب السامي، الفرق المادي للطاوية واللامبالاة الهندية للحياة المنتجة، فحينما يسأل قيادة الزن عن مستقبل حياته يقول: "دعني أكون حمارا أو حصانا لكي أخدم القرويين." كما أن رهبان الزن لم يكونوا طوال الوقت مشغولون بالعبادة، وقراءة، الكتب المقدسة، ومراجعتها مع القادة، بل انشغلوا في حضور الامور الحياتية المفيدة للمجتمع، اليدوية، والذهنية، وأحيانا، السماع لخطبة قصيرة جدا للاستاذ السيد، مع طرح الأسئلة والتحاور. وتكون اجابة الاستاذ عادة قصيرة، ومبهمة، وغريبة، وتصاحبها سلوك فعال، فتؤمن قيادات الزن بالقيام بالعمل بأنفسهم، بل يعتبرون العمل هي العبادة الحقيقية.
وتجمع عقيدة الزن بين الانضباط في التنوير والاستنارة. والاستنارة هي في الاستقلال، والاستقلال ما هو اقل من الحرية، ونتحدث هذه الايام كثيرا عن جميع انواع الحرية، الاقتصادية والسياسية والحريات الاخرى، ولكن هذه الحريات في الواقع ليست حريات حقيقة، حينما تكون في قالب النسبية. والحرية التي نتحدث عنها أكثر من ذلك بكثير، فالحرية الحقيقة هي نتيجة للاستنارة، وحينما يدرك الانسان ذلك يكون حرا في داخله، وحتى في اي ظرف حياتي صعب، فديانة الزن ديانة الاعتماد على النفس، والاعتراف بالنفس، واحترامها. فالاستنارة أو التنوير هي النقطة الرئيسية في جميع مدراس البوذية، لأن تعاليم بوذا بدأت من خبرته في الاستنارة، حينما ترك قصر والده الملك، وتوجهه للغابة للتأمل والاستنارة، قبل 2500 سنة، وفي الجزء الشمالي من الهند. ولذلك من المتوقع أن ينعم كل بوذي بالاستنارة في الحياة الدنيا أو حياة الاخرة. ويتم الوصول للاستنارة بالقول والفعل، وتكرر ثقافة الزن: "تفحص الكلمات الحية، لا الميتة، فالكلمات الميتة هي التي لا يمكن أن تتحول مباشرة وبصلابة من كلمات إلى خبرات واقعية عملية. فما هي إلا اضغان أحلام، انقطعت جذورها عن واقع الحياة وماتت." والانضباط الثاني في عملية التنوير هي الفعل، وفي الحقيقة حتى الكلمات الشفهية قد تكون جزاءا من الفعل إن كانت صلبة، ولكن الفعل تعبير عن عمل شيء ايجابي ملموس.
وحينما انتقلت روحانيات الزن من الصين إلى اليابان في القرن الخامس، مع انتقال الثقافة الصينية، لعبت ثقافة الزن على تطوير الثقافة اليابانية من ثقافة روحانية، إلى ثقافة شملت جميع مجلات الحياة. وفي الوقت الذي حددت الزن في الصين مع المعتقدات الطاوية ومع تعليمات اخلاقيات الكونفوشيسية، نوعية الحياة، كان تأثيرها على الحياة الثقافية في اليابان مختلف. فقد تطورت ثقافة الزن في اليابان حسب النفسية العرقية للشعب الياباني، التي أخذت ثقافة الزن بعمق، لتدخلها في مختلف مجالات الحياة، وخاصة في تصرفات السلوك، ومثاليات البوشيدو، وأخلاقيات التصنيع، وثقافة الفن، وحفلة الشاي اليانية، وفن تنسيق الزهور، وليس فقط في روحانيات الحياة والموت.& ولنا لقاء.&

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان