لثماني سنوات والمالكي يهوى جمع السلطات بيده، فهو رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة، قائد عمليات مكافحة الإرهاب،والموقع علي الاعتقالات وفق المادة 4 إرهاب، وزير الداخلية، وزير الدفاع، رئيس المخابرات، مدير الأمن العام مدير البنك المركزي، مدير فضائية العراقية، منظر الأعلام مطلق مصطلح (الانترنيت مكب النفايات) راعي شئون الأوقاف والحج والزيارات،قائد موكب وركضة طويريج، قاضي القضاة، كاتب ضبط المحكمة العليا يفصل أحكامها على مقاساته،هاتك ستر كل المنظمات المستقلة من هيئة النزاهة إلى هيئة تنظيم الانتخابات،المشرف والموجه لعشرات من المكاتب والمنظمات السرية التي لا يعرف ماذا تعمل،وما هي أهدافها، قابض على سلطات مطلقة لا تحصى ولا تعد!

يكفي إنه ظل في حالة خرق دائم للدستور طيلة هذه السنوات؛ تاركا البرلمان خلف ظهره؛ يناصبه العداء كما تناصب العجوز الحيزبون كنتها، وأخيرا ظل ولسنوات طويلة حارسا ومتسترا على ملفات الفساد والجرائم الصحيحة والملفقة على خصومه لا يحاسبهم عليها كما يقتضي القانون، بل كما تقتضي حاجاته الخاصة،( وهذه بحد ذاتها جريمة دستورية، وجنائية كبر ى) وكلما فتشت في ذهني عن قول مأثور أو حكمة أو بيت شعر ينطبق على حاله التعيس هذا لم أجد أدق من قول المتنبي:

( وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا!)

كل هذه المسؤوليات بيده كرجل شكوك خائف مرتاب وكلما وقعت مصيبة يقول إنه ليس المسؤول عما جرى، ويجري فعندما نكث بوعوده بإنجاز الكهرباء ألقاها على الشهرستاني، وعندما نكث بوعوده بتحقيق الأمن وإنهاء المتفجرات ألقاها على الذين وقعوا صفقة أجهزة الاستشعار الفاسدة، وكأنه ليس المسؤول عنهم بحكم كونه وزيرا للداخلية، وعندما وعد بالحد من الفساد وتحقيق كل الخدمات المفقودة حلال مائة يوم ولم يحقق شيئا ألقاها على البرلمان الذي لم يمنحه المال بينما الأموال الطائلة الهائلة تتسرب من تحت يديه إلى جيوب المختلسين والمرتشين واللصوص!

وعندما احتلت داعش الموصل ومدنا أخرى في ساعة واحدة وولى الجيش أمامها هاربا ألقى هذه الخيانة العظمى ومن قبله بالذات بصفته القائد العام، على آل النجيفي ومسعود البرزاني وعلى الأرض المتموجة التي لم تدعه يرقص جيدا!

المصيبة إنه جاء يريد مكافأة له على كل هذه الخيانة والفشل والخراب بتتويجه ملكا مطلقا على العراق لأربع سنوات أخرى؛ وإلا فسيفتح أبواب جهنم على العراقيين، وكأن أبواب جهنم لم تفتح علي يديه مرات ومرات! هل توجد فانتازيا في الدنيا أغرب وأفظع من هذه الفانتازيا؟ وهل يوجد كابوس حاكم أبشع من هذا الكابوس الجهنمي؟!

لكن الفانتازيا الأخرى إنه بدلا من وضعه في قفص الاتهام بأسرع وقت ممكن لمحاكمته عما اقترف بحق العراق،من جنايات كبرى والحد من تصرفاته وفق مادة قانونية تحد وتبطل تصرفات السفيه؛ ترك طليقا ممسكا بدفة حزب الدعوة، الحزب الحاكم عمليا والذي لن يستطيع العبادي ممارسة الحكم لعهد جديد إذا ظل مرتبطا به والمالكي يجثم عليه يوجهه كما يشاء وكما يريد،عائدا من الشباك بعد أن أخرج من الباب، ناصبا الفخاخ للحاكم البديل ليجعله يفشل، فيسترد ماء وجهه كما يتصور، أو يعود بديلا له كما يحلم!

لا ينبغي الاكتفاء بمحاكمة المالكي، بل يجب محاكمة نهج سياسي متكامل، وحقبة تاريخية سيئة جدا أتت به إلى الموقع الأول في البلاد وهو الذي ما كان يستحق أكثر من موقع موظف لتنظيم المواكب وطبخ الهريسة في الوقف الشيعي!

فالعملية السياسية التي يتغنون بها كل يوم ليست في جوهرها سوى التقاء مصالح الطائفية الشيعية بالشوفينية القومية الكردية تحت المظلة الإيرانية الأمريكية،والمالكي ليس سوى الوجه البارز الذي يحمل كل تشوهاتها وأمراضها، وشرورها!

إنها البيئة المثلى لصنع الدواعش لدى الطائفتين، ومن الشمال إلى الجنوب وشرقا وغربا!

كان يمكن للزعيم الوطني الكفء أن يحد من شرور التركيبة السياسية العامة،مساوئ العملية السياسية الجارية ودستورها العليل المشوه، لكن المالكي فعل العكس تماما، بل زاد من شرور التركيبة الطائفية العنصرية للسلطة،وفتح أبواب العراق للإيرانيين يعيثون فيه فسادا، ووأد كل إمكانات النمو، والتطور نحو الأحسن، وصنع البيئة المظلمة التي نبتت فيها الدواعش كما ينبت الفطر السام في الأرض المعتمة الرطبة! فكانة الطامة الكبرى التي ابتلي بها السنة والشيعة معا!

صارت الداعشية التي تسمى هناك بالإرهابيين، وهنا بالمليشيات وهناك بالحكم الشرعي،وهنا بالعهد الجديد سمة المرحلة وملامحها الكالحة المرعبة!

فالداعشيون كما صار معروفا مرضى في عقولهم ونفوسهم، عاطلون إلا من وحشيتهم وجنونهم ودناءتهم،ورثوا من تاريخ الإسلام كل مصادر وفتاوى القسوة والعنف والعدوانية سواء على مستوى النصوص أو الممارسات أو اختلاقات الأوهام وألاعيب الشعوذة ثم صاروا ينتجونها بخصوبة شديدة في أوساط الطائفتين سنية وشيعية، فالسنة والشيعة مهما افترقوا وتصارعوا؛ مرجعيتهم في للدين والقرآن الذي يقولون عنه إنه حمال أوجه، يمكن لكل منهم أن يجد فيه ضالته لتفسير ما يقترف من كوارث ونكبات،ورغم اختلاف الآيات المكية عن المدينية اختلافا نوعيا لكنهم جميعا ما تزال سارية المفعول!

وبدلا من أن يحكم العراق رجل عاقل متزن بنهج علمي يحد من غلواء النمو البدائي للغرائز والشهوات المقنعة والمحتمية بالمقدس والمبارك غيبيا،ابتلي العراق بالمالكي الذي هو من ذات الطينة فركب موجتها وشجعها للتكاثر، وجعلها هو وبطانته البديل لكل ما حقق العراقيون من منجزات حضارية منذ تشكيل الدولة الحديثة وبروز الشخصية العراقية الجديدة بعد طرد العثمانيين،والخلاص من حكمهم المتخلف البغيض!

وهكذا في ظل حكمة مضى المتخلف الوحشي يطرد المتحضر المهذب ويحل محله، وصار يتناسل ليصنع مجتمعا غريبا عن نفسه وعن تاريخه، وعن العالم المعاصر!وبالطبع لا يمكن فصل الواقع الذي استثمره المالكي وزاد في سيئاته عن حكم صدام لخمس وثلاثين سنة مليئة بالحروب والحصارات والقمع.

أجمعت آراء كثيرة على أن الطاغية لا يرحل عن السلطة إلا بعد أن يكون قد صنع وبنفسه بديله، وعلى غراره تماما، وإن كان من لحم أعدائه! فالطاغية خلال حياته المديدة يقضي على معظم خصومه،وبينهم من يكون فاضلا وجيدا، ويصلح أن يكون البديل الصحيح والجيد له، ويصنع كل الظروف السيئة التي تصنع السياسيين السيئين!

لأسباب أخرى كثيرة يكون من يبقى من خصوم الطاغية ليسوا الأفضل، بل يصعب أن تجد بينهم من لم يتلوث بنفس خصاله، ويحلو له تقليدها واقتفاء خطاها، فلا يكون أمل الناس في قيادة عهد جديد من التغيير والبناء!

فالقاعدة السايكولجية هي أن الضحية تقلد جلادها،لذا نجد أن معظم حكام العراق اليوم من الشيعة والسنة لا يختلفون عن صدام في شيء، سوى أنهم يلعنونه علنا، ويقلدونه سرا، مدركين أن له الفضل في صنعهم وحصولهم على كراسي ما كانوا يحلمون حتى بالاقتراب منها!

لم يرحل صدام إلا بعد أن قضى على أي بديل يمكن أن يكون أفضل منه، وقد شاهد من قفص محاكمته صورته في وجوه من حاكمه ومن سجنه ومن شنقه!

انعدام الديمقراطية في العراق لأكثر من نصف قرن أفقدت العراقيين البيئة والمدرسة الصحيحة لتخريج قادة وسياسيين ديمقراطيين.

في أجواء الاستبداد وانعدام حقوق الإنسان ينشأ الفاسدون ويفرخون كالأرانب، في ظل انفراد الطاغية لوحده في الحكم والقرار يصعب ان تجد قادة مبادرين واثقين من أنفسهم يتخذون القرارات الصحيحة، ويمتلكون خبرة الممارسة والعمل والعطاء والبناء!

بعد نيسان 2003 برز نوعان من المعارضين، نوع جاء من إيران وأوربا وأمريكا،ونوع ظهر في العراق شيئا فشيئا بتردد أو على استحياء يلمسون طريقهم بتلكؤ وتعثر كما يخرج من الظلمة الشديدة إلى الضوء الباهر، كان لكل فصيل على الآخر ريب وظنون وشكوك وتساؤلات!

فأهل الخارج وسموا بأنهم جاءوا على ظهور الدبابات الأمريكية، وأنهم عملاء، والذين برزوا من ركام الداخل لاحقتهم تهم كونهم بعثيين،وإنهم حلفاء لصدام، أو انتهازيون، يأكلون من الطبق الذي قدمته أمريكا ثم يبصقون فيه، إلخ. رافقت كل هذا انتقائية في تعامل كل فصيل مع الآخر، فالبعثي الشيعي غير البعثي السني والبعثي الكردي غير البعثي العربي أو التركماني،وكانت النتيجة أن البعثيين من الشيعة وجدوا من يحتضنهم حتى لو كانوا هم الأسوأ، والبعثيين من السنة وجدوا من يلاحقهم وينتقم منهم ويقطع عنهم لقمة عيشهم حتى لو كانوا هم الأفضل، ولم يحتكم في ذلك إلى معيار العدالة الذي يقول يجب محاسبة المسيئين ومن تلطخت أيديهم بالدماء على قدم المساواة من الطائفتين، كما يجب احتضان من لم يسيئوا بل أدوا واجبهم الوطني في الوظيفة أو العمل السياسي من الطائفتين!

النتيجة كان خليطا من الحكام غير المتجانسين بل المتنافرين لا تجمعهم سوى كعكة الحكم الدسمة الشهية؛ تقدمتهم العمائم السود والبيض حيث اعتبرت نفسها هي وحدها الفرقة الناجية التي تمنح بركاتها لهؤلاء الحكام المجهولين، وقد وقفت أمريكا معهم في لعبتهم المدمرة لأسباب خفية كثيرة أهمها مصلحة إسرائيل التي لا تريد عراقا بنظام صحيح متقدم متين وجيش قوي،كان عذر أمريكا في ذلك أن العلمانيين ودعاة الدولة المدنية والتكنوقراط قلة ولا قاعدة اجتماعية أو سياسة عريضة،بينما كان يمكن معالجة ذلك ببدء فترة انتقالية لثلاث سنوات أو خمس سنوات، كان يمكن ان يكون فيها الوطنيون والعلمانيون والمدنون أنفسهم وينمون بحيث يستطيعون عند النزول في انتخابات أن يحصلوا على نسبة حاسمة أو كبيرة، وحتى في حالة فشلهم فهم بنضجهم وبتربيتهم لكوادر تقنية وسياسية يستطيعون تكوين معارضة ناضجة وناجحة إذا الحكم الديمقراطي لا يتطور ولا يتواصل إلا بجناحين سلطة حاكمة ديمقراطية، ومعارضة ناجحة ديمقراطية!
&

يتبع

الحلقة الخامسة