من مفكرة سفير عربي في اليابان
&

&ناقشنا عزيزي القارئ في الجزء الأول من المقال واقع المعارضة السياسية في مملكة البحرين قبل الانتخابات القادمة، وأكدنا على أهمية دور المرأة، والتي لم تعترف المعارضة بوجودها حتى الان في مجلس النواب، مع أنها تمثل نصف المجتمع البحريني الفاعل. كما طرحنا& في نهاية المقال الأسئلة التاليه: بينما تصرخ زعامة المعارضة السياسية البحرينية، المقنعة بقناع الدين، المطالبة بالديمقراطية نتساءل، اليس هناك مفارقة كبيرة بين نسبية وانتهازية السياسة،& ومطلقية وروحانية الدين؟ ألم يصبح العالم في الالفية الثانية مجتمع اختصاصات متعددة ومتباينة، فالمعلم درس سنوات طويلة ليخلق جيلا يستطيع أن يتعامل مع تحديات العولمة، والمحامي تدرب لكي يدافع عن المواطنين، والاقتصادي تعلم لكي يخطط ويتعامل مع الارهاصات الاقتصادية في المجتمع، وأما رجل الدين درس سنوات طويلة ليتبحر في العلوم الدينية المتشعبة، بينما يبقى رجل السياسة رجل المراوغة "والانتهازية"، يغتنم أية فرصة مؤاتية ليتآلف، ويتناغم، مع معارضيه السياسيين، لكي يحقق مصالح منتخبيه؟ وهل الأولويات التي تنادي به زعامة المعارضة "الثيولوجية" تتوافق مع حاجيات العصر الذي نعيش فيه، وفي القرن الحادي والعشرين، ومع بدأ "الثورة الرابعة"؟ وما هي نوع الديمقراطية التي تطالب بها؟ هل هي ديمقراطية على النمط الغربي، أم ديمقراطية على النمط "الثيولوجي" الايراني؟ وما هي الثورة التي تردد زعامة المعارضة الحديث عنها؟ هل هي جزء من ثورات القرون الوسطي الأوروبية، أم هي تكرار لثورات الشرق الأتوقراطية، أم نسخ تجربة الثورة "الثيولوجية" الإيرانية؟ كما تسائلنا عن الثورة الرابعة.
فلنحاول عزيزي القارئ من خلال هذا المقال دراسة البيئة التي هيئت "للثورة الرابعة" قبل الدخول في تفاصيلها في المقال القادم، ومن خلال مراجعة مجموعة من الكتب الجديدة التي صدرت في العاصمة طوكيو. ولنبدأ بكتاب بعنوان، عصر الرقمي الجديد، كتبه اريك شميدت، الرئيس التنفيذي لشركة جوجل، و جارد كوهن، مدير شركة جوجل أيدياز. يؤكد الكاتبان في مقدمة كتابها على أن: "اختراع الميكروشبس، وهو العقل الالكتروني& للحاسب الالي، غير كوكبنا الارضي الشاسع الى قرية عولمة صغيرة، فخلال لحظات يستطيع الشخص أن يتواصل مع أي شخص في العالم بمكالمة تلفونية أو بمقابلة فيديو، كما يستطيع أن يدخل على محيطات من المعلومات من خلال تلفونه النقال، وهذه بداية قليل من كثير قادم." وقد علق على التغيرات الدولية للثورة التكنولوجية، الدبلوماسي السنغفوري، كشور مهبوباني، في كتابه، التلاقي العظيم، فقال: "غيرت تكنولوجية المواصلات والاتصالات الجديدة مجتمعات العالم. فقد كانت الدول سابقا، كركب من المراكب الشراعية سابحة في محيطات العالم، وتحتاج لقوانين تمنع اصطدام بعضها البعض، أما اليوم فيعيش سكان العالم على سطح سفينة كبيرة، لكل دولة كبينتها الخاصة. والمشكلة هي أن كل قيادة بلد ما، تريد ان تقيد مجرى هذه السفينة، فهناك 193 كبينة لي 193 دولة، مع 193 زعيم، وكل زعيم يريد أن يسيطر على قيادة هذه السفينة." وقد ادى ذلك لتدهور التعاون والتناغم الدولي، بل وصلنا لمرحلة ليس هناك قيادة بلد أو& قيادة حلف للعالم. وقد كان ذلك بارز في أزمة 2008 المالية العالمية، والتي أدت لزيادة مدمرة لديون كثير من دول الغرب. فقد اصبح العالم اليوم في حاجة ماسة لقيادات عولمة تستطيع ان تبحر بسفينة العالم بشكل تناغمي جميل. وأرجو أن تبدأ المعارضة البحرينية فهم ذلك، وتختار زعيم مناسب، للتعامل مع تحديات هذه المرحلة المعقدة والمتشابكة.
ويعلق اللورد البريطاني، ديفيد هول، عضو مجلس اللوردات، ووزير حزب المحافظين السابق، على ثورة التكنولوجية الحديثة، ليقول: "لقد غيرت رقاقة& الميكروشب مبادئ الحروب النظامية والسياسات الخارجية الدولية، لتكون نعمة ونقمة. ففي الوقت الذي كان الميكروشب ملاك طاهر لخدمة البشرية، اصبح أيضا شيطان اخرس في اليد الشريرة لدمار البشرية، وما نحن حتى الان إلا بداية العصر الرقمي الجديد. كما سرقت هذه الثورة الرقمية احتكار الحكومة للسياسات الخارجية، بل غيرت تماما العلاقات الدولية منذ معاهدة روما. والدليل الواضح لذلك هو بروز مجموعة العشرين على الساحة الدولية كمنتدى لآمال ومخاوف شعوب العالم، ليعكس ذلك أيضا الصعود الاسيوي، وانحدار الهيمنة الغربية. فمنذ السبعينيات تمت سلسلة من الاحداث العالمية، حولت برامج السياسات الدولية، إلى برامج اثرية. كما تناثرت هيمنة المعلومة والقوة والسلطة الدولية بتسربها في شبكات الانترنت، لتمكن نصف شعوب كوكبنا الارضي، لتهز هذه التطورات اساسات المؤسسات الدولية في القرن العشرين. فلم تعد أمريكا العظمى إلا في كتب التاريخ، كما كانت قبلها بريطانيا العظمى، كما أن المفاهيم التي تصر على أن قيم الدبلوماسية الامريكية هي التي تشكل اليوم الدبلوماسية العالمية، ما هي إلا تعبيرات في خيال المتفائلين."
وقد يتساءل البعض كيف يمكن ذلك، حينما تصرف العسكرية الامريكية أكثر ما تصرفه باقي عساكر دول العالم أجمع، وحينما يمثل الاقتصاد الامريكي 20% من الاقتصاد العالمي؟ والجواب في راي اللورد ديفيد هوول هو في "رقاقة الميكروشب". "فلم يعد كبر الحجم يعكس القوة، بل بالعكس تعني الضخامة وقابلية الاصابة، وبطئ التآلف، مع التصلب والتكلس. فتصغير الاسلحة بالثورة التكنولوجية، مع ثورة الاتصالات والمعلومات، أدت لولادة إضعاف الكبير، وتقوية الضعيف، كما انتقلت الضربة القاضية من الدول العظمى، إلى يد مجموعات شعبية متناثرة صغيرة. لنعيش اليوم عالم انتقلت فيه مركزية الدولة، والقانون، والقوة، للشعوب، ولم يعد الحاجة، ولا الأهمية، لقيادة العالم بأمة وحيدة، أو تحالف ما. كما انتقلت في عصر المعلومة احتكار الدول للمعلومات، والمعطيات، إلى أيدي المجموعات المتناثرة الصغيرة، مع المهنيين المنتشرين في كل قطاع الكرة الأرضية، وجماعات المصالح المشتركة."
وقد قالها هنري كيسنجر في كتابه، الدبلوماسية، في عام 1993: "فكأنه قانون طبيعي، تنتقل الهيمنة الدولية في كل قرن لدولة تشكل النظام العالمي، حسب قيمها. ففي القرن السابع عشر كانت فرنسا، وفي القرن الثامن عشر كانت بريطانيا، وفي القرن التاسع عشر كانت النمسا، أما القرن العشرين، فلم تؤثر دولة على العلاقات الدولية بشكل حاسم ومتناقض كالولايات المتحدة." ويبقى السؤال المهم: من الذي ستشكل قيمه إطلالة القرن الحادي والعشرين؟ لقد أكد البروفيسور السنغافوري، والدبلوماسي المخضرم، كيشور مهبوباني، في كتابه التلاقي العظيم، بأنه: "حان القوت للتفكير فيما لا يمكن التفكير فيه، لقد قبل عصر الهيمنة الامريكية على القضايا الدولية على الإنتهاء. فقد تحركت اسيا لتستلم موقعها المركزي من جديد في الاقتصاد العالمي،& والذي لم يعد من الممكن توقيفه، ولم يعد هناك شك بأن القرن الأسيوي بدى في الأفق، وعلى الزعامات الدولية تهيئة شعوبها لتنفيذ التغير العولمي الجديد."
كما اكد المفكر الأمريكي، أيان بريمر، في كتابه، مجموعة الصفر: "أننا انتقلنا لعالم مجموعة الصفر، وهو العالم الذي ليس فيه دولة عظمى أو تحالف، يستطيع أن يواجه تحديات قيادة العولمة بمفرده." لذلك نحتاج اليوم لقيادات عولمية لتقود، مع رفاقها سفينة العولمة، بتعاون وتناغم، كما نحتاج إلى حكم عولمي كوفئ. وقد يتساءل البعض إن كان قائد كزعيم المعارضة البحرينية، يصلح لهذا الدور القيادي، في سفينة العولمة الجديدة؟ والجدير بالقول بأن القوة العسكرية ستبقى مهمة، ولكن من الحكمة استخدام الدبلوماسية لحل التحديات الدولية، وبذلك ستكون القوة العسكرية متميزة حينما تحقق اهدافها بدون استخدام القوة، كما قالها استراتيجي الحرب الصيني العظيم، زن تسو. فقد انتهى عصر دبلوماسية رعاة البقر، فلم يعد قانون العين بالعين والسن بالسن، قانون صالح في الألفية الثالثة، بل كما قالها الزعيم الهندي العظيم مهاتما غاندي: " العين بالعين تنتهي بالعمى للجميع."& فالسلام والاستقرار السياسي هما الاساس للتنافس الاقتصادي الناجح في الاقتصاد العولمى، لنحقق التنمية المستدامة في دول العالم من شرقه إلى غربه.
ويبقى السؤال: هل حان الوقت للانتقال من مرحلة التعصب القومي والديني، إلى مرحلة التالف والتناغم العولمي؟ ولتحقيق ذلك نحتاج لثقافة عولمة متناغمة، وقيادات عولمة تستطيع استيعابها. وقد أكد الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، بأن البحث عن الحقيقة لا يعني بأن هناك فعلا حقيقة مطلقة، ففي عالمنا الحياتي المادي كل شيء نسبي. ويعني ذلك أن هناك احتمالات كثيرة، وليس هناك حقيقة صادقة وحيدة، مما يؤكد بأن علينا احترام تعددية ثقافاتنا، كما علينا التواضع في طرح افكارنا، واحترام خلافاتنا بتناغم جميل، ومناقشتها برصانة وحكمة، لنصل لطريقة تفكير اجمل، ورؤية حياتية افضل. وهذه النظرة اصبحت مهمة، حينما بدأت تغير التكنولوجيا كوكبنا الارضي لقرية صغيرة، تتعايش فيها شعوب العالم من الشرق إلى الغرب معا، لمجابهة ومعالجة تحديات عولمة معقدة. وهذه التحديات العولمية تحتاج عولمة تفكير لفهماها، وقيادات عولمية لادراتها ومعالجتها. وقد يتساءل البعض وهل يصلح رجل منبر ديني لهذه المسئولية المعقدة، والنسبية، في الالفية الثالثة؟
لقد تعلم اليابانيون أهمية التناغم الديني بين الشنتو الاصلية، والبوذية والمسيحية المستوردة، بعد حروب دموية مزمنة. ففصلوا الدين عن السياسة، ومنعوا رجال الدين التدخل مطلقا في السياسة، مع أن الروحانيات الدينية حافظت على جذورها واحترامها في سلوكيات وأخلاقيات الشعب الياباني. وهناك أتذكر عبارة جميلة لسعادة سفير جمهورية مصر العربية، حينما وصلت إلى طوكيو في صيف عام 2005، وهو يطلعني على اخلاقيات الشعب الياباني حينما قال: "يا سعادة سفير مملكة البحرين الحبيبة، هنا في اليابان ستجد مسلمين بدون الاسلام." وكان يعني بذلك، مع أن اليابان ليست دولة مسلمة، ولكن ستجد جميع الاخلاقيات والفضائل التي نادى بها ديننا الاسلامي الحنيف هنا تنفذ بحذافيرها في المجتمع الياباني. كما أن مفهوم "الهونه"، أي الصدق الداخلي باليابانية، و"التاتمايه"، أي المجاملة الاجتماعية، في التعامل مع الاخرين بعواطف متزنة، وحكيمة، وصادقة، والمحتفظة على عواطف الغضب الانفعالية سر في النفس، فليست هي للعلن، لخلق بيئة عمل متآلفة ومتناغمة. وقد ساعدت هذه الروحانيات اليابانية لان تتجه اليابان نحو الحداثة، وتتجنب الغربنة، لتحقق تعليم في القرن السابع عشر أدى لثقافة قرأه وكتابة مجتمعية قاربت 100%، كما ساعدت تغيرات التصنيع في القرن التاسع عشر، في عصر الامبراطور ميجي، الى تحويل اليابان من مجتمع زراعي اقطاعي، الى مجتمع حداثة صناعية. وقد أدت الحكمة اليابانية أيضا لبرغماتية نادرة في التعامل مع& دمار الحرب العالمية الثانية، لبناء الاقتصاد اليابان في زمن قصير.
كما أن الذكاء العاطفي الياباني المتزن هيئ لبناء مجتمع تكنولوجي متقدم، من خلال التعاون مع عدو الامس الامريكي، لتحويله لصديق حميم، وشريك محترم. وقد خلقت اليابان اقتصاد رأسمالي رصين، ذا مسئولية مجتمعية بارزة، ليوفر لأبناء الشعب التعليم المتقدم، والرعاية الصحية المتميزة، والوظيفة المنتجة والمبدعة والدائمة، مع نظام تقاعد وتعطل ناجح، لينخلق مجتمع طبقة متوسطة ذكية ومنتجة، تقارب فيها البطالة إلى 3%. كما أدى النظام الصحي الوقائي لخفض نسب البدانة لاقل من 4%، بينما هي تزيد في الولايات المتحدة عن 36%، كما خفضت الرعاية الصحية العلاجية اليابانية نسبة وفيات الولادات لأقل من 0.05%، بينما هي 0.4% في الولايات المتحدة، أي ثمان أضعاف ما هو في اليابان، مع أن الولايات المتحدة تصرف على الرعاية الصحية ضعف ما تصرفه اليابان على الفرد الواحد. فاليابان تصرف حوالي 3000 دولار سنويا على الفرد، بينما تصرف الولايات المتحدة أكثر من 8000 دولار سنويا على الفرد، أي حوالي 18% من الناتج المحلي الاجمالي، بينما تصرف اليابان 9.5%. كما أن عدد اسرة المستشقيات 13.7 لكل ألف شخص في اليابان، بينما هي 3.1 في الولايات المتحدة. وتلاحظ عزيزي القارئ بأن كل هذه البيئة العولمية الجديدة هيئة الظروف للثورة الرابعة، التي سنناقشها في المقال القادم إنشاء الله. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت للمعارضة البحرينية أن تختار زعيم في مستوى تحديات التي يعيشها العالم اليوم، لتحقيق تنمية مستدامة، للوقاية من تحول البلاد لفوضى عقائدية وسياسية تعيشها الدول المجاورة في المنطقة؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان