&

بعد عناء ثلاثة أشهر من البحث عن شقة وسيارة في هذه المدينة الأمريكية الصغيرة التي تزدحم بالمجمعات السكنية المكتضة بالساكنين، وبعيدا عن شجع الرأسماليين الذين يملكون هذه المجمعات ويحتكرون خدماتها ويستغلون ذلك الإحتكار كي يتحكموا في الأسعار بشكل مبالغ فيه.. وبعد أن أنقذني الله من شراء سيارة مغشوشة في معرض سيارات يملكه مسلم باكستاني للأسف.
&ذهبت الى البحيرة الجميلة التي ألجأ إليها كلما ضاقت النفس وتجمد التفكير لأتأمل في المساء قبل غروب الشمس وأمارس رياضة المشي والركض احيانا، ثم الجلوس على شاطيء البحيرة... وفجأة إرتفع صوت لا أنكره من بعيد يردد إسمي بطريقته الأمريكية... سلام؟!
إلتفت للخلف وعرفت أنه الدكتور جيم الذي حياني بعد إنقطاع لأكثر من شهر.. وقبل أن أرد عليه ضمني بقوة وسلم على محياي كسلام العرب وهو يعاتبني على عدم المجيء للبحيرة كعادتي في السابق.
قلت له: أشغلني جشع الرأسماليين يا جيم.. جئت الى أمريكا طمعا في الراحة والهدوء والتعليم الجيد لأسرتي على حسابي الخاص رغم الكلفة الباهضة وسط هذه الأجواء الجميلة التي تزينها أضواء ونسائم الحرية.. فوجدت الجشع يعكر الأجواء عندكم وأخاف عليكم من جشع التجار الذي يحتكر كل شيء.
قال لي ضاحكا بسخرية: لاتخف يا سلام.. إنها أمريكا التي لا تمنح الفرصة لمستبد أيا كان ذلك المستبد كي يستعبد الناس.. وسرعان ما تقف المؤسسات الأهلية والمنظمات والقضاء العادل ضد كل من يستغل إمتلاكه لمال أو سلطة لإحتكار حياة الناس ومعيشتهم.
ثم ضرب بيده الثقيلة على كتفي النحيل وقال: ألم تقولوا ياعرب.. أن العدل أساس الملك؟!
قلت وأنا أحاول أن استرد نفسي بعد الضربة الثقيلة.. بلى.. صحيح.
قال: هنا العدل.. كالسيف.. من ذهب إليه مظلوما.. يخرج منتصرا.
قلت له: المهم.. ياجيم.. أنا أحب امريكا وأدرك أنها أم العالم وأبوه وأستاذه ومديره.. ووجودها ضروري للحفاظ على هذا العالم من الفوضى.. كسنة إلهية، يختار بها الله من زمان لآخر من يتقلد مسئولية قيادة العالم، مثل دور الأب في الأسرة. الذي يحن على أولاده ويقسو عليهم احيانا كي يكونوا أسوياء... لكني أخاف عليكم من جشع الإغنياء الذي لم أشعر به عندما كنت هنا في الثمانينات الميلادية. وقد يكون للأزمات الإقتصادية التي مرت عليكم السنوات القليلة الماضية دور في ذلك.
ضحك.. وقد أعجبه وصفي لأمريكا بالأب والأم ثم قال ساخرا: ولكن الأب أمريكا.. يقسو أحيانا على أولاده فيضربهم بصاروخ أو قنبلة..!
قلت له ساخرا ردا على سخريته: ومن الذكاء أحيانا أن تصنع أبناء بالتبني تعلمهم فن العقوق ضد آباءهم الحقيقيين لتحقق بهم مآربك الخاصة.. ثم تقتلهم كلما إنتهى الدور الذي كلفتهم به.
نظر ألي بعينين تتفحص ملامحي لمعرفة مقصدي ثم قال وقد أدرك المعنى: وهل اللوم يقع على صاحب العقل الذكي الذي يستغل ذكاءه من أجل تحقيق مصالحه.. أم على الأغبياء الذين يصبحون أدوات في أيادي من يحقق بهم أهدافه؟!
وأستمر متسائلا: وما الذي يجعل هؤلاء الأغبياء.. حمقى.. وبلهاء.. وبلا مباديء كي يكونوا سكاكين لذبح كل الآمال التي تحلم شعوبهم في الوصول إليها؟
أليست ثقافتهم.. بالتي جعلتهم يحملون كل هذا العداء لكل شيء جميل ومنير يمكن أن يقودهم نحو النجاة من التخلف؟!
&نظرت إلى قرص الشمس البرتقالي.. يتدلى على شاطيء البحيرة بدون خيوط وقلت:
دعني يا جيم.. أستمتع بهذا المنظر الرائع، وأمنحني قليلا من الوقت كي أتأمل بعيدا عن اسئلتك التي تمطرني بها لتقذف جرحا أكبر من قرص الشمس.. وأكثر لهيبا من لونه البرتقالي.
تنهد.. مشفقا على حالي وقال:
أعرف أنني أنقظ جروحك.. لكني أريد أن أوقظ غفوتك.
ضحكت بحزن المتألم من تعب وقلت: والله يا جيم.. أنا لا أعاني من غفوة، ومشكلتي أنني أملك عقلا يستيقظ خمسا وعشرين ساعة في اليوم الواحد منذ أن كنت طفلا صغيرا... لكن واقعي العربي يغفو منذ قرون ويرفض أن أوقظه مثلما أنت تحاول أن توقظ غفوتي المستيقظة.. وتعتقد أنني أعاني من أزمة غفوة.
وكم أتمنى يا جيم.. لو كنت أعرف فن الغفو، لأنني لو كنت كذلك لكنت غنيا ألعب بالملايين.. غير غارق في هموم غفوة شعوب لا أمل في يقظتها.
يقظتي.. يا جيم: لم تجلب لي سوى العناء والتعب والعوز... ففي عالمنا العربي: خير لك أن تغفو من أن تملك عقلا يفكر وعين تبصر.. وقلب يحب.
في عالمنا العربي: يغرسون في النشء.. ثقافة الإستذياب.. والإستحمار.. والإستبقار.
قال مندهشا: ما تلك الثقافة.. فسرها لي؟!
قلت له: الإستذياب أن تكون ذئبا.. وإلا أكلتك الذئاب.
والإستحمار: أن لا تعرف شيئا.. ثم تضع عقلك بين فخذيك.. أو تحت قدميك.
والإستبقار: أن تدر كالبقرة الحلوب.. نفاقا وكذبا وزورا وتزييفا للواقع والحقيقة وفتوى قاتلة.
&
&
قال: لماذا لاتكونوا أسودا؟!
قلت له: على بعض.. نكون.. ومع العدو أنعج من النعاج.
قال: كونوا.. طيورا.
قلت له: إلا الطيور.. فنحن لا نجيد فن التحليق كلعصافير.. وقد صنعنا قيودنا لتكبلنا عن التحليق في الفضاء بحرية.
قال: ولماذا.. تكرهون الحرية؟!
قلت: لأننا منذ قرون.. نرضع أثداء العبودية، المحلوبة بأصابع الدجالين والمشعوذين، ويكون نصيبنا من الحلب: فكر الخنوع والخوف والذل وكراهية الحياة الجميلة.
&ولكي ألطف الحوار معه.. قلت مازحا: بالأمس قرأت خبرا يقول أن كتابا نشر في مصر يدعو إلى أكل لحم الكفار والمرتدين.. هل تتركني يا جيم أم أأكلك... وفتحت فمي وهجمت عليه.. أمممممم... وهرب مني قليلا يضحك بجنون، وفجأة.. وجه لي لكمة قوية على صدري المهشم.. كمن يمون على محب له.. وقال: عاهدني من اليوم أن نلتقي كل شهر لننسج حوارا من الخيال والواقع.
وبصمت له بكل أصابع الكفين والقدمين أن ألتزم قدر الإمكان بالحوار الشهري معه، ليكون مكملا لحلقاتنا من هذا البلد العظيم، وأن نترك للصدفة اختيار موضوع الحوار.. ثم وضعت يدي على صدري وودعته مسرعا خوفا من لكمة ثانية!&
&