بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الأحداث التي شهدتها ليبيا، وانتهت بإسقاط نظام معمّر القذّافيّ، نستطيع اليوم أن نتبيّن ما وقع وما سوف يقع.

ففي أحداث 17 فبراير 2011، كانت ثمّة هبّة شعبيّة تطالب بالإصلاح، وما فتئت أن تحوّلت إلى ثورة برفع سقف المطالب إلى تغيير النّظام. هذا التّحوّل مردّه إلى أسباب عديدة، منها سوء إدارة النّظام للأزمة، وإلقاء خطابات سياسيّة استفزّت الجماهير الغاضبة. ومنها ما كان يحاك في الخفاء من مؤامرة عالميّة اشتركت فيها قوى دوليّة ودول إقليميّة وعناصر محلّيّة تسعى إلى السّيطرة على البلاد للحلول محلّ القذّافيّ. هذه القوى الدّوليّة هي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وتوابعها من الاتّحاد الأوروبّي الذي لا رأس له. فقد كرّست الولايات المتّحدة الأمريكيّة مفهوم "الفوضى الخلاّقة" لإعادة تشكيل المنطقة ورسم حدود جديدة لدولها بما يخدم مصالحها الاقتصاديّة والأمنيّة. أمّا القوى الإقليميّة التي أوكل إليها دور أساسيّ في هذه المهمّة، فهي قطر التي استطاعت أن تقنع الغرب بأنّها الدّولة الوحيدة القادرة على قيادة هذا التّحوّل، بما لديها من أموال تنفقها بدون حساب ولا محاسبة، ومن أذرع إعلاميّة قادرة على قيادة توجّهات الجماهير العربيّة الأمّيّة وشبه الأمّيّة. ثمّ انضمّت إليها لاحقا تركيا، التي تسعى بقيادتها الإخوانيّة إلى إعادة إنتاج دولة الخلافة لتهيمن على الثّروات العربيّة الضّخمة. أمّا العناصر المحلّيّة، فهي تنظيم الإخوان المسلمين، وأمميّته شبه الماسونيّة.

نستطيع أن نقول إنّ ما حصل في ما أطلق عليه اسم "الرّبيع العربيّ" ما هو إلاّ مؤامرة كبرى استغلّت غضب الجماهير، وركبت ثورتها البريئة المشرئبّة إلى التّغيير إلى الأفضل، بتوزيع الثّروات الوطنيّة بشكل عادل، ورفض دولة القمع الأمنيّ، وتوسيع هامش المشاركة السّياسيّة. وتعتبر الحالة اللّيبيّة النّموذج الأمثل لهذه المؤامرة. فبعد سقوط نظام القذّافيّ بمساعدة النّيتو، وتدمير بقايا الدّولة التي كانت قائمة، انسحبت القوى المشاركة في القتال، وتركت ليبيا في فوضى، آملة أن تواصل أقطاب العمالة المحلّيّة والإقليميّة إكمال المهمّة التي تمثّل في سيطرة ما يسمّونه "الإسلام المعتدل" على البلاد، متكفّلا بمحاربة الإرهاب والتّطرّف، وحاميا للمصالح التّجاريّة والنّفطيّة للغرب.

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد عبّرت صناديق الاقتراع عن رفض كامل لهؤلاء العملاء المحلّيّين، وصعد التّيّار الوطنيّ الذي لم يكن مرتبطا مع الغرب باتّفاقات تحمي مصالحه الأمنيّة والاقتصاديّة. فحدث ما نعيشه اليوم من حرب أهليّة مدمّرة تشنّها كتائب الإخوان ومليشياتهم وحلفاؤهم المحلّيّون على الشّعب اللّيبيّ ومقدّراته، ووصلت بهم الوقاحة إلى رفض ما أنتجته العمليّة الانتخابيّة ممثّلا في البرلمان. وقاموا باستدعاء المؤتمر الوطنيّ المنتهية ولايته للانعقاد، وشكّلوا حكومة على مزاجهم، وعقدوا العزم على أن يستولوا على ليبيا ويخضعوا شعبها بالقوّة. فهل سينجح هؤلاء في تحقيق أهدافهم؟ بكلّ أسف وأسى، أقول إنّهم ربّما ينجحون في ذلك، لأنّ مؤشّرات موازين القوى اليوم في صالحهم. وذلك للأسباب التّالية :
1-&إنّهم قوّة منظّمة، تعتمد تراتبيّة السّمع والطّاعة في أعمالها، ولذلك فإنّهم الأقوى رغم أنّهم أقلّيّة. فالمجاميع الأخرى لا يربطها أيّ رابط، وليست لها مشاريع تفصيليّة تؤمّن لها الوصول إلى غاياتها.
2-&إنّ القوى الكبرى تؤيّد الإخوان، وتدافع عنهم، ولذلك فإنّها ترفض أيّ طلب للتّدخّل الأمميّ حتّى وإن جاء من السّلطة الشّرعيّة، للمساعدة على جمع السّلاح، وإقامة الدّولة، لأنّ ذلك من شأنه أن يفسد مخطّط الإخوان للاستيلاء على الوطن.
3-&إنّ الدّول الإقليميّة وعلى الأخصّ قطر وتركيا والسّودان تمدّ هؤلاء بالسّلاح والعتاد والأموال، وتضع كلّ خبراتها السّياسيّة والعسكريّة والدّبلوماسيّة في خدمته.
وهنا يبرز السّؤال : ماذا سوف يحدث في ليبيا في الأشهر القادمة؟
1-سوف يحاول الإخوان السّيطرة على أكبر مساحة جغرافيّة ممكنة ذات التّكتّل السّكّانيّ الكثيف، وترهيب اللّيبيّين لإخضاعهم بشكل نهائيّ.
2-سوف يحاولون السّيطرة على الميناء النّفطيّ، وعلى منابع النّفط في الجنوب الغربيّ، وحتّى إن لم يستطيعوا الاستفادة منه، فهم سيحرمون الحكومة التي ستنبثق من البرلمان من هذه الموارد.
3-سيعتمدون سياسة التّرهيب والتّرغيب لأعضاء البرلمان، وسيحاولون منعهم من الالتحاق بزملائهم في طبرق، حتّى يصل العدد إلى ما دون النّصاب القانونيّ، وعندها سوف يعلنون أنّ البرلمان لم يعد يحظى بالشّرعيّة، فيساعدون الدّول الكبرى على التّنصّل من التزاماتها المعلنة بدعم الشّرعيّة.
4-&سوف يطرحون بعد ذلك الحلّ الوسط الإخوانيّ، وهو إعادة انتخاب برلمان جديد يحقّقون فيه الأغلبيّة المريحة من خلال التّهديد والتّزوير لوقوع دوائر انتخاب الكتل السّكّانيّة الكبيرة تحت سيطرتهم المسلّحة.
إخواني وأبناء وطني، نحن نعيش كارثة حقيقيّة لأنّ هذه الأقوام قرّرت أن تستعبدنا، وإذا حصل هذا فسلام عليك يا وطني.
&