امتلأ الإعلام المقاوم، والاجتماعي منه بشكل خاص، بأهازيج نصر كانت متوقعة، أنشدتها حماس فور إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار… نار إسرائيل طبعاً. أما القنوات المقربة من حماس، فأطلقت حملة لإقناع نفسها أولاً، ومتابعيها (هل حقاً يصدقون؟)، بأنّ ما حققته ليس خيبة مدوية!
بالتزامن مع إعلان الرئيس الفلسطيني عن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، من دون كثير حصاد كانت تمني به حماس النفس، ومن دون أن تحقق أياً من الشروط التي وضعتها سابقاً قبل أن تعيدها حقائق القوة إلى أرض الواقع، علت أصوات سيمفونية النصر التي برعت حماس في عزفها مع كل حرب، بينما اجتاح الشبكة وسم #غزة_تنتصر حافلاً بتغريدات انتصار مفجع موجع، يرقص فيه غزيون بلا خبز أو مأوى فوق أنقاض ما كان يوماً حاضرة للحياة… ولو بحدود ضيقة.
لم تتأخر معزوفة النصر في الانطلاق، مصحوبة بالتبريكات الآتية من تحت الأرض في بيروت، وجرت مواكبة إعلان وقف اطلاق النار، بتصريحات على مستوى قيادي، وبتغريدات على مستوى مناصرين، لم تخل من التأكيد على "نشوة انتصار" يصنع في المخيلات ليوظف لاحقاً في الإعلام.

النصر أنواع، بعضه ميداني، وبعضه معنوي… هذه حقيقة تاريخية. لكن نصر المقاومات العربية يستحق أن يوضع في خانة فريدة: نصر خيالي من صنف الغول والعنقاء، يتحقق على أنقاض مدن منكوبة، وفوق جثث أطفال وعزل، ثمنه آلاف القتلى وآلاف الجرحى، الذين يسددون بسقوطهم ثمن تلك السويعات التي سيخرج فيها أخيراً قادة المقاومات من تحت الأرض ليعلنوا واضحة: انتصرنا.

ما أسهل النصر...
أنصار حماس ما انفكوا يكررون ما أعلنه المتحدث باسمها: بتنا قوة تحدد للإسرائيليين زمن الحرب وزمن السلم. بعبارة أخرى، بتنا نحدد متى يبرحنا العدو ضرباً، ومتى يتوقف وقد كلت يداه.
وعلى عكس اطلالة عباس الحزينة والمقتضبة، والواعدة بتحرك يهدف لإقامة دولة فلسطينية فوق حدود 1967 وليس مجرد الاكتفاء بتفاهمات مرحلية، جاء المؤتمر الصحافي لحماس صاخباً ليعلن "النصر الساحق للمقاومة"، متضمنا عناصر متوقعة لكثرة ما تتكرر مع كل حرب مع اسرائيل.

ولأنّه نصر من العصي على أي خبير استراتيجي أو تكتيكي أن يفك ألغازه، خصوصاً إذا كان سيقرأ المعطيات الميدانية للحرب، وأعداد القتلى، والخسائر والمكاسب التي تحققت، فإنَّ مهمة القنوات الإعلامية الدائرة في فلك المقاومين والممانعين كانت فعلاً مهمة صعبة. لعل النصر الحقيقي يكمن هنا أولاً وأخيراً. عليك أن تقنع جمهوراً مشرداً، ممزقاً، مثخناً بالجراح، أن نصراً تحقق، ولا يسندك أي دليل سوى خطابات محورها "الصمود الاسطوري لأهل غزة ومقاومتها". ولم يتردد الإعلام في اختطاف فرحة المدنيين بوقف إطلاق النار، أي فرحتهم بأنهم ما زالوا أحياء يرزقون بعد كل أهوال الحرب، ليقول إنها "فرحة النصر" التي تفيض عن قادة حماس لتملأ قلوب وعقول أهل غزة ... المنكوبين!

أما عدسة "الكاميرا المقاومة"، فلها مهام أخرى. تهرول فوق الركام وتلاحق مواطنين لا يحيدون قيد أنملة عن نص مستعاد: إنهم يحتفلون بالنصر بالرغم من كل النكبات النفسية والمعنوية والمادية التي يعانون، فيهرعون ليقدسوا سر المقاومة ومؤسسها ومناصريها. كل الأرواح والممتلكات والذكريات فداء لها، وليس عليهم إلا التصريح بذلك أمام "الكاميرا المقاومة" لضمان البقاء... إلى أن يحين موعد الانتصار التالي.
ليس مهماً وسط كل ذلك إعلان إسرائيل على لسان بنيامين نتانياهو إن "حماس لم تتعرض لهزيمة مماثلة منذ نشوئها"، لافتًا إلى أنها "تلقت ضربة قاسية ولم تحقق أيا من مطالبها لتوقيع وقف إطلاق النار".
حسابات النصر والخسارة مسألة نسبية. بالنسبة إلى حماس، يكفيها أنها “نجحت في إكراه ملايين الإسرائيليين على النزول إلى الملاجئ" و"القضاء على نتنياهو سياسياً" و"إحراج الحكومة الإسرائيلية" و"الصمود الاسطوري لأهل غزة ومقاومتها" والتأكيد بأنّ هذه هي "أطول حرب عربية إسرائيلية”. أما ثمن هذا الإكراه والإحراج فأكثر من 2100 قتيل و11 ألف جريح، فضلاً عن إبادة 90 عائلة بأكملها، وتشريد أكثر من 450 ألف مواطن، وتدمير غزة ومرافقها على رؤوس ساكنيها.

ما حصيلة الهزيمة الاسرائيلية؟ اسمعوا ما قال جيش العدو: “دمرنا غزة، ونقبل بإعادة إعمارها لأسباب إنسانية، لكن فقط تحت سيطرتنا". من محصلة الهزيمة أيضاً: "دمرنا الأنفاق وقتلنا ألفاً من مقاتلي حماس بينهم مسؤولون كبار، ودمرنا آلاف الصواريخ ومئات مواقع القيادة، وتجنبنا اعتداءات في الاراضي الإسرائيلية ومنعنا، بفضل نظام القبة الحديدية، قتل آلاف الإسرائيليين بالصواريخ التي تطلق من غزة". حصيلة الهزيمة الإسرائيلية بالأرقام: 70 وجندياً وضابطاً، وخمسة مدنيين.
اللهم اهزمنا بما تهزمهم، وانصرهم بما تنصرنا.


&