(1)

&

الصورة الأولى

حين يحني الشباب رؤوسهم وهم يمشون مغادرين قاعدة "سبايكر" ويضع كل واحد منهم يديه على كتف الآخر، يمشون بأمر من بدوي متخلف، يمشون خافضي الرؤوس قد لا تقوى سيقانهم على حمل أجسادهم وهم يعرفون إلى أين هم ذاهبون. هؤلاء الشباب يبلغ عددهم ألف وسبعمائة شاب بريء يحمل كل واحد منهم حلما جميلا "ألف وسبعمائة حلم جميل" أن يطيروا في الفضاء يوماً ويشمخون في الوطن العراقي فيحموه من الحاسدين والمتربصين بجماله والحاقدين على تاريخه، والوطن يكبر فيهم فيمشون مزهوين. قد يحلم احدهم بعروس مرسومة أكفها بالحناء وبصرخة طفل يولد في ريف مدينة الناصرية أو البصرة والسماوة والديوانية والنجف وكل المدن الآمنة والمقدسة والمجروحة الوجدان. هؤلاء الحالمون يمشي خلفهم شخص من سقط المتاع يضرب بكفه على رأس آخرهم في العنقود الماشي. يفترشون الأرض بأمر من مجموعة سقط المتاع والفاشلين في الحياة والمجرمين من أسرة المجرم البغيض الذي حكم العراق بالحديد والنار والحروب وزرع بذور الموت لا يزال أتباعه يسقونها بالخبث.

يأتي المشهد الذي يلي مشهد مسيرتهم والأسرى من طلبة القوة الجوية الذين لم يبلغ الحالم منهم الثلاثين عاماً. وثمة لص ومجرم يطلق النار على رؤوسهم الواحد بعد الآخر ويدفع مجرم ثان بالشهيد نحو النهر وكلهم صاغرون ضحايا عهود مظلمة وظالمة ولا أحد يكترث بحجم الجريمة التاريخية التي يدعي اليهود بأنهم أحرقوا بأفران هتلر ليؤسسوا في العصر الحديث منظمات هتلرية جديدة لإبادة الجنس العراقي والجنس البشري.

صورة مجزرة "سبايكر" غير قابلة للمشاهدة وغير ممكنة النظر صوبها. سألت نفسي سؤالا مشروعا عن الألف وسبعمائة شخص وهم يدركون بأنهم ميتون لماذا لم ينقضوا على السبعة الآمرين ويحيلونهم ترابا!؟ وأجبت لنفسي لأنهم ليسوا أشراراً لا يعرفون العنف ولا يعرفون القتل ولم يتدربوا عليه.. لذا فإنهم مشوا صاغرين! وثانيا فإن القتلة ليسوا مجرد أنفار سبعة!

بعد سكوت دام شهور، لم يتم تسريب النبأ سوى أخبار عابرة عن إختطاف طلبة من كلية القوة الجوية في تكريت وأحتجزوا كرهائن للمقايضة. تم التعتيم على الجريمة التاريخية التي فاقت كل جرائم التاريخ والعصر من أكلة لحوم البشر إلى ما يسمى ألأفران النازية، ثم تنكشف الجريمة وتظهر الصورة المرعبة متحركة على شاشات التلفزة.

&

الصورة الثانية

يفتح الباب في مكاتب وصالات رئيس الوزراء. يفتح حارس الرئاسة البروتوكولية الباب على مصراعيه، وتظهر سجادة حمراء يمشي عليها رئيس وزراء، اي رئيس وزراء سابق أو لاحق. تنسحب الكاميرا لتكشف لنا منصة خشبية يحيط بها من الجانبين علمين عراقيين كتب على كل من العلمين وبالخط الكوفي "الله أكبر". يمشي رئيس الوزراء ببدلة جديدة أنيقة وبقميص بياقة زرقاء

وربطة عنق حريرية. وقد حلق شعر ذقنه ومسد شاربيه. يقف أمام منصة الخطابة وأمامه ميكروفون القناة الفضائية ليعلن عن إختطاف طلبة من القوة الجوية ويطلب من الجهات الخاطفة إطلاق سراح المخطوفين. تكشف الصورة الأولى التي بثت مباشرة بعد الحديث التلفزيوني لترينا جريمة القتل وإمتزاج دم الحالمين بماء نهر الفرات الأخضر.

هم ليسوا مخطوفين، هم ضحايا أبشع جريمة في العصر الحديث نفذها "بعثيون" صورالشهداء ستبقى معلقة في واجهة السماء إلى أبد الآبدين.

(2)

&

الصورة الأولى

أمهاتنا، آباؤنا، أخواتنا، أطفالنا يتساءلون عن فلذات أكبادهم في تجمع داخل البرلمان أو مكان ما يشبه البرلمان أمام برلمانيين بذات الملابس وذات أربطة العنق الحريرية. هي ليست تظاهرة، فليس فيها ولا يجمعها مظهر التظاهرة، هي وقفة إحتجاج تاريخية. كل حركة يد وكل صوت أنثى حالمة وكل نداء أم ليس لها غير وليد ولد وكبر ونما على صدرها ونام في حضنها زمنا ورضع حليب ثدييها وكبر في الحلم وكبر الحلم فيه وكانت عيون الأم ولهة تنظر من من بنات الجيران تليق بملقاك ومقامك يا ولدي. تنزع الأم فوطتها التي تستر شعرها الأشيب وظفيرتيها المضمورتين وترمي بالشيلة العراقية وترمي بالعباءة السوداء وتتفرع ذارعة يديها اللتين تستطيلان لتطيلا السماء عجزت أذرع متذرعات أسخيلوس عن التعبير من على منصة "أبيثاروس" بما يتوازى مع متذرعات قاعدة "سبايكر". تعلن الأم التي خسرت وليدها وولدها بعد ربع قرن من المعاناة وهي "تبصبص" في الصبايا من خلال فتحات الأبواب للبيوت الطينية المجبولة من طمى نهر الفرات ونهر دجلة الخالدين أيهن تليق بمقامك يا ولدي، ثم تتذرع للسماء طالبة العون والمحاسبة في الدنيا قبل الآخرة وتمنت لو أنها ماتت ولم تعش تلك اللحظات المرة المتناثرة على مساحة وطن الجفاف في ان ترى إبنها راحل قبلها وبالطريقة التي عرضت على شاشة التلفاز والتي تدمي قلوب الغرباء فكيف بقلب الأم.

&

الصورة الثانية

أذن المؤذن بالقول أشهد أن لا إله الإ الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

أنحنى الناس على أرض العراق يؤدون الصلاة المقدسة الطاهرة

إصطفت ميكروفونات القنوات الفضائية بالعشرات لتنقل خطب يوم الجمعة.

تطفأ الأضواء وتنسحب الكاميرات ويرفع مراسلو وكالات الفضائيات ميكروفوناتهم من المنصة. ويسود الصمت وتبقى على شاشة الفضاء السماوي يدا الأم التي نزعت شيلتها وعباءتها السوداء ورمتهما في السماء يطيران في مطبات الفضاء بديلا عن طائرات سبايكر الوهمية. إنسحب خطباء الجوامع من المنصات وهم يلبسون أجمل الجبب وأغلى العباءات الشفافة ودلفوا في سيارت المرسيدس، تفتح الحمايات لهم الأبواب متوجهين بعد الصلاة لتناول وجبات الغداء.

تصطف الصواني محملة بالرز "البسمتي" وعليها لحم الخراف مزدانة باللوز والكشمش، فيما تصل الأم التي فقدت وحيدها للبيت. تقول لها أختها "أصب لك غده" تسكت الأم.. تنتظر الأخت الإجابة، وعندما لا تسمع صوتا، تقول "الله موجود" تنتبه الأم لما قالته أختها "الله موجود" فتنظر للسماء وترى قطعتين من لون أسود "العباءة والشيلة" تحجبان نور الشمس وتسبحان في الفضاء نحو الله.. الشيلة السوداء والعباءة السوداء تعبث بهما الريح وتحجبان ضوء الشمس.

&

(3)

الصورة الأولى

يقف شخص طويل القامة ملثم الوجه. يلبس سروالا أقرب للأزياء الباكستانية أو الأفغانية ويعتمر ما يشبه العمامة. ملابسه سوداء، لا يرى من ملامحه ويديه سوى عيون مخيفة وسكينة في يده مؤهلة لذبح ضحية. الضحية يقف إلى جانب القاتل صاغراً، إنسان أشقر الملامح بريء المحيا كان يحلم بقبلة صديقته التي تعارف عليها في طرابلس وهو يعدها أنها المغامرة الأخيرة وسيعود إليها ليعيشا حياتيهما سعيدين. يرتدي بدلة الموت الإسلاموية أو الإسلامية البرتقالية اللون مجردا من كل ملابسه. هو قانون المكونات الضالة الظالمة قانون الكذب والصناعة السياسية وقانون خدم المافيات وولدانهم، والضحية الذي سيموت بعد لحظة التصوير بسكين حادة في يد المجرم المصنوع والمختلط الصناعة بين الإرث الجيني والإرث الرأسمالي الجشع ستذبح ضحيتها بعد حين.

&

سيموت بملابسه البرتقالية.. وقد مات شاء من شاء وأبى من أبى!

ليست ميتة بالمشنقة ولا ميتة بالكرسي الكهربائي ولا ميتة بالمقصلة ولا ميتة بقذائف صاروخية ولا ميتة بمفخخات ولا ميتة بغزو شامل ولا ميتة بعدوان على شعوب بريئة ولا ميتة بطلقة من دمية أمريكية أطلقت النار في الغابة على جيفارا ومات، ولا حتى ميتة بحد السيف في بلدان الخليج ولكن بحد سكين قريب نصلها من أصابع القاتل الوحش المخبول وعدو الحياة القاتل المجرم وهو يتلو بيانه قبل ذبح الضحية.

مات أولفي. وصورته بملابسه البرتقالية سوف تضاف إلى مجازر "سبايكر" التي لم يعرف التاريخ مثيلا لها في قسوتها.. صورة لن يسمح الزمن بمحوها من سجل جرائم التاريخ المخزية!

&

الصورة الثانية

حديقة البيت الأبيض. منصة وعليها ميكروفون واحد تابع لإعلام البيت الأبيض. يمشي باراك أوباما ويقف عند المنصة أمام الميكروفون بعد أن أعلن عن "ذبح" الصحفي الأمريكي "أولفي" بالسكين الحاد، يمشي الرئيس الأمريكي باراك أوباما في حدائق البيت الأبيض قاطعا إجازته التقليدية. وصل المكان المخصص للحديث وهو يرتدي بنطالا من الجينز وقميصا أزرق اللون بدون أن يشد ربطة العنق الحريرية إحتراما للضحية البريئة. وقف مقطب الجبين بكلمات هادئة ألقاها بحزن وبدون تفاصيل.. قال بضعة كلمات تعبر عن الجريمة والإرهاب ووعد بتصفية الفئة الضالة التي يبدو وكأنها فاجأت البشرية!

صورة أوباما في حديقة البيت الأبيض في مواجهة الميكروفون تبدو أن فيها حنكة مسرحية، فلا شك أن لأوباما مستشار أزياء! نصحه أن لا يشد ربطة العنق الحريرية على غرار ما يفعله برلمانيو ووزراء المنطقة الخضراء العراقية، فذلك غير منسجم وغير ملائم مع دشداشة الضحية الأمريكية أولفي البرتقالية التي سيحلق بلونها في فضاء الدنيا.

وفيما كان أوباما يتلو بيانه، تصورت وكأن "أولفي" بدشداشته البرتقالية يقف إلى جانب "أوباما" وهو يتلو بيانه!

&

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

&

[email protected]

&