ليست زلة لسان قول المالكي في التلفزيون؛ وهو محاصر لإخراجه من السلطة، وقبل خطبة الوداع، أو الاستسلام بيومين، واصفا المتصارعين معه على السلطة بأنهم "دواعش سياسة" وبذلك شهد شاهد من أهلها على نفسه وعليهم، وهو الأعرف بدواخلهم!

تاريخ الدواعش هو نفسه تاريخ الجنون، والجشع والكذب واستغلال المذهب، والدين والطائفة والقومية للمآرب الشخصية! ومن الصعب معرفة حقيقة الدواعش في هذه الطائفة؛ إن لم تعرف تاريخها لدى الطائفة الأخرى، وفي تاريخ الإسلام كله الذي يجمعهم على نصوصه وخطوطه العريضة؛ مهما افترقوا فيما بعد، أو اختلفوا في تفسيرها كلا أو جزءا!

فهم في نفس الرحلة الطويلة، بدأ من غار حراء، مرورا بسقيفة بني ساعدة التي صارت ظلالها فيما بعد عصفا من لهب، وبقميص عثمان الذي ما زال لم يجف على حبل الغسيل حتى اليوم، وبجمل عائشة الذي سواء عقر أو لم يعقر، ما يزال يضرب بحافره رمال الصحراء!

حتى اليوم لا يقدم غلاة الشيعة صور علي والحسين ومن معهما؛ إلا وهم يحملون السيوف،أكبرها برأسين، موحين ان المعركة لم تنته بعد! ولا يقدم السنة رموزهم إلا وهم يفاخرون بما فتحوا من البلدان، وما سبوا في أهلها من نساء، وما غنموا من أموال وديار. وخالد ابن الوليد ما تزال تعد عنه الأفلام والمسلسلات التلفزيونية،ويقدم نموذجا للشجاعة والفروسية، ولا يحكي عما مارس من عنف وانتهاك وإيذاء!

ويندهش الناس لما تقوم به الدواعش من تهشيم لشواهد الحضارة، وقطع للرؤوس إذا فكرت أو نطقت أو خالفت، ويتجاهلون أن حكام المسلمين على مر العصور ذبحوا خيرة المفكرين والعلماء والمبدعين بحجة حماية الدين من الكفر والزندقة، وأن ما يسمى اليوم بالمنجز الحضاري الإسلامي ما هو إلا ما استطاع علماء ومفكرون من إنجازه بجهدهم ومعاناتهم في غفلة حكام المسلمين ولم يكن برعايتهم أبدا، كان الحكام يرعون الجواري والغلمان فقط! وإذا تنبهوا لمنجز عالم أو مفكر؛ قتلوه بدلا من مكافأته!

دواعش السنة والشيعة حتى اليوم يستقون أحكامهم من هذا التراث! أليس خلاف الشيعة مع السنة على وقائع حصلت قبل 1400 سنة ويريدون اليوم أن يصفوا حساباتها؟ هل هذا الحساب العسير والأبدي من أجل القيم حقا؟ أم من أجل مصالحهم في هذه الأيام؟

حيدر العبادي قالها قبل أيام وهو لم يجلس على كرسي رئاسة الوزراء بعد؛ مهددا متوعدا (أنهم لا يريدون أن يقروا أن بغداد قد عادت لموسى ابن جعفر، ومازالوا يقولون بغداد هارون الرشيد)،هذا بدلا من أن يقول أن بغداد لكل العراقيين! ويالها من فاتحة تبشر بالخير الوفير لرئيس وزراء تعقد عليه الآمال! ( ملاحظة: يجب الحذر من نهوض الدكتاتور، ومراقبته وهو جنين، ومنذ الخطوة الأولى)

يتهم متزعمو الشيعة متزعمي السنة بأنهم هم الذي بدأوا معاداتهم منذ أبي بكر،واستمروا عليها حتى أحمد حسن البكر وصدام،وبعد سقوط نظام صدام،واصلوا عدائهم لهم بالمتفجرات والحرب الأهلية، وكل جريرتهم أنهم أتباع أهل البيت!

ولكي لا نستغرق معهم في الماضي، لنعد لتلك الواقعة الخطيرة التي حدثت قبل حوالي عامين من سقوط نظام صدام، حينما انبرى مجموعة من السياسيين ورجال الدين الشيعة لاجتماعات متواصلة في لندن وزيارات لقم وطهران، ومشاورات مع المخابرات الإيرانية ومراسلات مع حزب الله ورجال علويين في سوريا تمخضت عن توجيه خطاب طائفي متصلب، وبأعلى نبرة أسموه " إعلان شيعة العراق " ذلك البيان الذي يمكن أن يعد ترجمة لغوية جديدة لصيحة المختار بن أبي عبيد الثقفي قبل أكثر من (1300) سنة (يا لثارات الحسين) !

وقع على الإعلان حشد من أشد المتعصبين الشيعة الذين برز كثير منهم في المواقع العليا للسلطة في العراق حتى اليوم، منهم إبراهيم الأشيقر، ونوري المالكي، وأحمد الجلبي، وحسن الجلبي، وعلي علاوي، وحسن العلوي، وسامي العسكري وغيرهم كثيرون!

وبينما كان الشعب العراقي يتطلع لعهد جديد يتسم بالأخوة والمحبة بعد سقوط النظام وكان المنتظر من هؤلاء الرجال ان يأتوا بدعوة للتسامح والمصالحة كما حصل في بلدان عديدة عاشت تحت نظم قمعية؛ جاء هؤلاء يحملون إعلانا يتحدث عن مظلومية الشيعة فقط، كأن العراق ليس فيه مظلومون آخرون من السنة والمسيحيين والمندائيين والأزيديين وغيرهم

لا مجال في هذا الحيز لإعادة مناقشة محتويات الإعلان؛ لكنه وباختصار في الوقت الذي تحدث عن ضرورة نبذ الطائفية؛ جاء بكل ما من شأنه تكريس الطائفية، وبدلا من تحقيق التحام للشيعة بوطنهم وشعبهم؛ولعب دورهم المرموق في إعادة بناء البلاد، جرى شقهم وتمييزهم عنه، وسجنهم في غيتو، لا يختلف كثير عن الغيتو الذي أقامته الصهيونية لليهود!

ليس فقط باشتراطه ان ينص الدستور بأن الشيعة هم الأكثرية، وما يترتب على ذلك من نهج خطير ( الأكثرية الطائفية ثم المحاصصة بديلا للأكثرية السياسية الوطنية)

بل في نفسه التعبوي العام، كان أشبه بصيحة إعلان حرب ونفير وتوعد للسنة وغيرهم من فئات وشرائح المجتمع!

ثمة مستشارون في البيت الأبيض والبنتاغون اطلعوا على الإعلان وباركوه، ووجدوه مشجعا لخوضهم الحرب في العراق، والاطمئنان أنهم سيجدون قاعدتهم هناك وفق مفاهيمه ووعوده.وبما يتلائم مع نواياهم أيضا في احتراب الطائفتين!

ثمة أنباء جدية تسربت أن الاجتماع القصير بين بوش وعزيز الحكيم بمفردهما في البيت الأبيض؛ كان أشبه بتوقيع وثيقة زواج متعة وفق هذا الإعلان!

لقي الإعلان انتقادات من كتاب كثيرين بينهم مثقفون شيعة. كتبت آنذاك ثلاث مقالات نشرت جريدة المؤتمر مقالتين منهم ( حجبت الثالثة لأسباب يطول الحديث حولها الآن) ناقشت أفكار هذا الإعلان وأكدت إنه يحمل كل بذور الفرقة الطائفية التي ستتفجر بعد سقوط النظام، وإن ما يحتاجه التغيير هي توجهات وطنية، ومقولات هادئة تطمئن الجميع وتقنعهم لينفضوا عن النظام لا طروحات منفعلة مريبة تخوفهم فيبقون متمسكين به، وأكدت خطورة التفرد بالسلطة، فقد ناضلنا جميعا على أسس وطنية لا طائفية، ولا قومية،ومن أجل الديمقراطية؛ لا من أجل الاستبداد.

وقد رد موفق الربيعي أحد الواقفين وراء هذا الإعلان مستخفا بتحذيرات المنتقدين؛ مؤكدا مضي المعارضة الشيعية وفق بنوده ومفاهيمه،وأنهم لن يرتضوا بأقل من ذلك!

وبعد أن أسقطت القوات الأمريكية وحلفاؤها،نظام صدام دخل الموقعون يحملون إعلانهم؛ تسبقهم ميليشياتهم وأسلحتهم قادمة من إيران، متحدثين حيثما حلوا أنهم أسقطوا النظام بتضحياتهم وبدمائهم،ولهم كل الحق في تنفيذ ما ورد في إعلانهم متجاهلين سخرية الناس الذين يعرفون كما يعرف كل العالم؛ ان من أسقط النظام هي الطائرات والدبابات الأمريكية، ولولاها لبقوا يهشون الذباب عن وجوههم في مقراتهم وفنادقهم في طهران ولندن ودمشق!

وفعلا جلبوا إعلانهم معهم إلى القاعة التي جرت فيها صياغة الدستور، وراحوا مع متزعمي الأكراد يحولونه ممزوجا بمطالب الأكراد ومقترحات وتوجيهات بول بريمر،إلى مواد دستورية! لذلك جاءت أغلب مواد الدستور تحمل الشيء ونقيضه، (مثلا يضمن الدستور حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حرية التعبير؛ شرط أن لا تتناقض مع الشريعة الإسلامية، والتي يقصد بها المذهب الجعفري)!

لم يكتفوا بذلك، بل أدخلوا صفحات من الإعلان ديباجة طويلة للدستور (لم يحدث مثل هذا في أي دستور محترم في العالم)،ثم خرجوا يتفاخرون أنهم جعلوا إعلان

شيعة العراق دستورا للبلاد! كانت تلك الضربة الأولى والعميقة لقلب الدولة الجديدة، إذ كرست لطائفة واحدة مع شريك قومي مؤقت،قلق يهدد بالانفصال بين فترة وأخرى!

ومن هنا انطلق هذا الهوس بالدستور، والتهويش به فهو يحمل في باطنه إعلانهم الطائفي الخاص، وليس حقوق العراقيين جميعهم! بعد هذا هل ثمة من يضيع بلعبة البيضة والدجاجة؛ ليسأل من استفز من؟ ومن أطلق الدواعش على الضفتين؟

ظلت وثيقة الاستئثار بقيادة السلطة تتكرر كما في حجرة المرايا؛ لتشمل السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية والحياة العامة كلها! بل شملت حتى المرافق الإعلامية والثقافية التابعة للدولة؛ إذ لا يجوز أن يترأسها سوى شخص مرشح من الأحزاب الشيعية الحاكمة!

ومضوا مع الدوائر الإيرانية ولوبيات أمريكية، ينعتون كل من يخالفهم في طائفيتهم بأنه يخالف الدستور، وإنهم مبرؤون من الطائفية متجاهلين أنهم احتكروا السلطة بشكل يفوق في أنانيته وتشوهه وشراهته ما تحدثوا عنه من مظاهر احتكار السلطة للسنة في العهد المالكي، أو ما تلاه من عهود. رغم فشلهم المتكرر والطويل الأمد في قيادتها.

فهم لم يمنحوا من الإدارة الفعالة لغيرهم سوى المظاهر والجوانب الشكلية، متمسكين بالمفاصل العليا الحاسمة منها يمارسون بواسطتها إرهاب الدولة، مزدرين الآخرين. ومن يشركونهم في بعض المواقع العليا يشعرونهم بأنهم المتفضلون بها عليهم،ثم يروحون يتسقطون عليهم الزلات ويكونون ضدهم الملفات بتهمة الإرهاب ( كملفات المالكي الأكثر شهرة من أوراق البحر الميت)!

راحوا يرددون إنهم يستطيعون حكم البلد لوحدهم لأنهم الأكثرية، متجاهلين حقيقة أن البلد الذي فيه طائفتان بحجمين كبيرين لا تحتسب فيها الأكثرية بالطريقة التقليدية مطلقا، لأن معنى ذلك أن طائفة ستتسلط على أخرى مهما تقنعت الوجوه!

كان طبيعيا أنهم في هذا السياق لم يتحقق على أيديهم أي بناء يعتد به، على العكس عم الخراب والتراجع كل شيء، بينما طواحينهم تدور كل يوم تحمل السنة وزر فشلهم مع أوزار الماضي كله،من العهد البعثي والعهود الانقلابية والعهد الملكي، رجوعا إلى عهد يزيد، ومعوية وأبي بكر، وياله من إرث ثقيل!

هكذا سياسة انتقامية جعلت السنة مواطنين من درجة أدنى،بل ان البعض عمل على اجتثاثهم وإلقاءهم خارج الحدود والخلاص منهم،ليبقى البلد لطائفتهم فقط! ولا يغير من الأمر شيئا استعمال كلمات أخرى بديلا عن اللفظ المباشر، فالحديث عن اجتثاث&البعثيين والتكفيريين والإرهابيين، وقطاع الطرق، وأخيرا أتباع يزيد، وأحفاد معاوية والدواعش صار من الواضح أن المقصود به هم السنة!

لم يكترث هؤلاء الحاكمون بعقلية الحقد والانتقام لحقيقة أن إلقاء طائفة كاملة تحت طائلة العقاب والإقصاء والتهميش والإذلال يعني وضعها على طريق كل الاحتمالات الخطيرة، فمن تجرح كرامته لا يمكن أن يسكت، ومن تتلاقفه أمواج اليأس العاتية قد يسلك طريق العنف والإرهاب فعلا ويتحالف مع الشيطان للقصاص ممن يظلمه! وعذره في ذلك "لقد تحالفتم مع أمريكا وإيران ضدنا، لم لا نتحالف مع القاعدة ضدكم؟ غير متحسبين في ذلك لما هو خطأ أو صواب، وما إذا كان الأمر سيكون في حدود سيطرتهم، أم أنها ستنفلت وتجلب الكوارث لهم وللوطن كله، كما حصل فعلا!

ظل السنة يشعرون ويعانون فعلا، من كون وجودهم وكرامتهم ومستقبلهم في خطر داهم لم يسبق لهم أن واجهوه منذ الغزو الصفوي للعراق في قرون مضت، لكن ثمة متزعمين منهم اشتطوا بعيدا فعقدوا تحالفات مع الزرقاوي واليوم مع الداعشي ابراهيم السامرائي مدعين أنها تحالفت مؤقتة! وهذا محض أوهام طبعا، وأصبحت مواقفهم هذه اليوم جزءا من الضياع والتيه العام الذي دفع الشعب العراقي خاصة المسيحيين والأزيديين ثمنه باهظا!

وهكذا يدفع متزعمو الطائفة المهيمنة على السلطة والمسؤولة عن مصير البلاد والعباد بأنانيتهم طائفة أخرى شقيقة لهم إلى طريق العنف والتطرف وصنع القتلة الذين سينالون ليس فقط من أبناء الطائفة التي احتكر متزعموها الحكم، بل من الشعب كله، ويجعل وجود البلاد نفسها مهددا بالزوال!

طوي إعلان شيعة العراق،ولم يعد أحد يتحدث عنه، فقد أدى دوره، لكنه لا يستطيع أن يخفي نفسه داخل الدستور، إنه هناك يصرخ من وراء سيول الدماء والخراب والفساد والانحطاط الذي تحقق؛ وعلى أوسع مدى، هكذا تكون نتيجة حكم أرادوه أن يقوم على أساس الطائفة والانتقام التاريخي، لا على أساس الوطن، والنزعة الإنسانية المفعمة بروح المحبة والتسامح!

لذا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن الداعشية تعشش في الدستور، ومن ثقوبه وثغراته الكثيرة يتدفق هذا الغزو الداعشي شمالا، وجنوبا، شرقا وغربا!

يتبع

&