لماذا استطاعت المملكة الأردنية الهاشمية تجاوز ما يسمّى "الربيع العربي". لماذا استطاعت أن يكون لديها ربيع خاص بها اسمه "الربيع الأردني"؟ الجواب في غاية البساطة وهو عائد إلى أن الأسرة الحاكمة في الأردن لم تؤمن يوما بالعنف، بصفة كونه وسيلة من أجل الإحتفاظ بالسلطة. هناك شرعية للملك في الأردن وهذه الشرعية نتيجة طبيعية لوجود علاقة عضوية بين العرش والأردنيين. هناك شعب متصالح مع الملك وهناك ملك متصالح مع شعبه. هل أفضل من هذه المعادلة لضمان مستقبل أفضل للأردن والأردنيين في الوقت ذاته؟
الأهمّ من ذلك كلّه أن الإصلاح السياسي في الأردن ليس ابن البارحة وليس وليد ظروف معيّنة فرضت نفسها على الملك. الإصلاح في الأردن نهج سياسي بدأ مع قيام المملكة وتكرّس مع صعود الملك الحسين، رحمه الله، الى العرش. استمرّ الإصلاح بوتيرة أكثر سرعة في عهد الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الذي أكّد مجددا أنّه يقود الإصلاحات وأن التحديات السياسية والإقتصادية لا يمكن أن تكون مبررا لأي تأجيل للخطوات الإصلاحية. على العكس من ذلك، هناك رغبة واضحة وارادة صلبة في السير في الإصلاحات إلى النهاية نظرا إلى أنّها عنصر من عناصر تأمين الإستقرار ومواجهة العواصف التي تضرب المنطق.
في ورقته النقاشية الخامسة التي نشرها عبدالله الثاني الأحد الماضي الواقع فيه الثالث عشر من أيلول ـ سبتمبر من السنة ٢٠١٤، قال العاهل الأردني:
"اليوم، ورغم وقوع اجزاء من منطقتنا ضحية الصراع المذهبي والأرهاب والفكر المتطرّف، وما يعنيه ذاك من اختطاف لمستقبل جيل كامل، إني أؤمن بأنّ مسيرتنا الإصلاحية الأردنية المتدرجة والنابعة من داخل والتي تضمن مشاركة جميع ابناء وطننا وبناته في بناء مستقبلهم، هي الخيار الأفضل والأكثر ثباتا واستدامة لحماية بلدنا الغالي من الفوضى التي حولنا".
أكثر من ذلك، أكّد عبدالله الثاني "أنّ التحديات ليست عذرا لتأجيل اجندتنا الإصلاحية، بل (هي عذر) لتحويلها إلى فرص، كما هي حالنا دائما في الأردن. لذا اشارككم ورقتي النقاشية الخامسة بعنوان تعميق التحول الديموقراطي: الأهداف والمنجزات والأعراف السياسية".
أوضح عبدالله الثاني أنّه يتناول في الورقة النقاشية الخامسة "القيم والممارسات الديموقراطية الأساسية على أمل أن تكون هاديا تتبناها جميع الأطراف في المعادلة السياسية وتطبقها لدى قيام الأطراف بادوارهم وممارسة مسؤولياتهم الوطنية تجاه مواطنينا الذي يستحقّون دوما الأفضل من ممثليهم ومن الخدمات الحكومية التي تقدّم لهم".
الملفت أن الملك جاء يذكّر المواطنين بأن الإصلاحات لم توضع على الرف بمجرّد أن الأردن تجاوزت احداث٢٠١٠ و٢٠١١ و٢٠١٢ عندما وجد من يريد التظاهر ونشر الفوضى خدمة لأجندة لا علاقة لها بمصلحة المواطن. لم تكتف السلطات الأردنية المختصة باتخاذ كلّ الإجراءات التي تضمن احتواء الشغب. ذهبت إلى ابعد من ذلك. حرصت على حياة كلّ مواطن نزل إلى الشارع. كان همّ رجال الأمن المحافظة على حياة المواطن، بمن في ذلك حياة الذين سعوا إلى استفزازها والإعتداء عليها.
في الوقت ذاته، كان هناك اعداد لقانون انتخابي جديد، على قياس المواطن الأردني وليس على قياس مجموعة معروفة، هي بكلّ صراحة الأخوان المسلمين. سعت هذه المجموعة وقتذاك إلى أن يكون القانون الإنتخابي مجرّد مطية لها كي تفوز في الإنتخابات مستغلّة موجة "الربع العربي" الذي لم يكن سوى خريف باكر في معظم البلدان التي حلّ فيها.
بعد سنة كاملة وثلاثة اشهر على الورقة النقاشية الرابعة جاءت الورقة الخامسة التي تضمّنت تفاصيل كثيرة تصب في اتجاه تطوير المؤسسات، بما في ذلك الحكومة ومجلس النوّاب. لا مجال للخوض في هذه التفاصيل التي تناولت كلّ ما من شأنه قيام دولة حديثة في ظلّ ملكية دستورية، لكنّ الواضح أنّ ما يسعى إليه عبدالله الثاني هو تحصين الداخل الأردني من جهة والتأكيد من جهة أخرى أنّ لا بديل في نهاية المطاف من قيام نظام مستقرّ قوامه احزاب تمتلك برامج وحكومة تتتولى كلّ المسؤوليات ومعارضة تحاسب، تماما كما في الدول الديموقراطية.
لا وجود لمجال لا تشمله الإصلاحات. لذلك تطرّق العاهل الأردني إلى الرسالة التي وجّها في العام ٢٠١١ إلى مدير المخابرات العامة من أجل "المضيّ قدما في اصلاح هذه المؤسسة الوطنية الرائدة".& كذلك اشار إلى "أنّ الحكومة تعكف حاليا على تفعيل دور وزارة الدفاع لتتولى مسؤولية جميع الشؤون الدفاعية غير القتالية ولتكون بالطبع جزءا من الحكومة وخاضعة لرقابة مجلس الأمّة".
لم يتجاهل الملك دور الملك بقوله أنّه "يقع على عاتق الملكية الهاشمية مسؤوليات توفير نهج قيادي جامع لكلّ المكونات يستشرف المستقبل بهدف تحقيق الإزدهار لأجيال الوطن. ويقع على الملك، بصفته رأسا للدولة وقائدا أعلى للقوات المنسلّحة مسؤولية الدفاع عن قضايانا المصيرية المرتبطة بالسياسة الخارجية وأمننا القومي وحماية تراثنا الديني ونسيجنا الإجتماعي وذلك من خلال مجلس الوزراء الذي يتولّى ادارة جميع شؤون الدولة استنادا إلى الدستور".
لم يترك عبدالله الثاني بابا مرتبطا بتطوير المؤسسات إلّا وتطرّق اليه، بما في ذلك "انجاز قوانين الحكم المحلي عبر انجاز قوانين الإنتخابات البلدية& واللامركزية".
من الواضح أن العاهل الأردني يضع الأسس لمرحلة جديدة في الأردن تتجاوز تطوير الحياة السياسية والحزبية ومؤسسات الدولة وتوزيع السلطات ودور كلّ سلطة. إنّه يعد الأردن لتكون جاهزة للتعاطي مع المرحلة المصيرية التي تمرّ بها المنطقة. وهذا يعني في طبيعة الحال التكيّف مع أي تغيير يمكن أن يحصل كي لا يكون هناك ما يفاجئ الأردن ويجعلها غير قادرة على حماية نفسها بفعالية.
لم تحم الآردن نفسها في كلّ وقت إلّا بمزيد من الإصلاحات السياسية من جهة وبفضل المؤسسات القوية المتماسكة من جهة أخرى. الحياة الحزبية والبرلمانية في المملكة ليست بنت البارحة. لم تتعطّل هذه الحياة إلّا السنوات التي وجد فيها من يريد ضرب المؤسسات مستخدما العنف والسلاح والمزايدات التي قضت على انظمة عدة وستقضي على دول عدّة في المنطقة وفي المحيط المباشر للأردن.
ما حمى الأردن دائما تلك القدرة لدى الملك على النظر إلى بعيد. الملك الحسين كان استثنائيا. من يتذكّر أنّه اعاد الحياة البرلمانية إلى الأردن في العام ١٩٨٩ وأن الإنتخابات جرت في اليوم نفسه، أو بفارق أربع وعشرين ساعة، عن سقوط جدار برلين. كان بين الزعماء القلائل في المنطقة الذين ادركوا أنّ العالم تغيّر.
الملك عبدالله الثاني يمتلك الميزة نفسها. إنّه يدرك أن المنطقة في حال مخاض وأنّ تحصين الوضع الداخلي جزء لا يتجزّأ من الصمود الأردني. هل أفضل من الإصلاحات والمؤسسات القويّة والحديثة والفعّالة لتأمين هذا الصمود؟
&