في البدء لابدّ ان اصرّح باني لست متخصصا في التراث المعماري ولا دارسا ضليعا في هندسة البناء فما سأكتبه مجرد انطباعات عمّا اراه اليوم من ظواهر شاذة لم نعهدها من قبل في الاستهانة بتراثنا المعماري والإهمال الذي لايخلو من مقاصد التخريب المتعمد لأرثنا الحضاري العراقيّ وليعذرني السادة المختصون ان شططتُ في بعض ماأقوله نظرا للهلع العائم في دواخلي والحزن العميق الكامن فيّ وانا ارى بلادي تعرى من حُلّتها التي ألفناها وتنزع إزارها الجميل وترتدي بدلها خِرَقا بالية ويطاح بمعالمها العمرانية الزاهية ليحلّ الخراب والقفار فيها أينما حللت وحيثما أزفتُ
ولا أخفي غضبي ويكاد يعتصر الألم قلبي حينما ارى بناءً مشيّداً غريبا& جديدا يزيح معلما تاريخيا عتيدا في ذاكرتنا مع ان هذا الاجراء يتكرر دائما لمحو حواضرنا التي كنّا نعدّها خالدة وها هي الان تندرس تدريجيا مثل اطلال عفا عليها الزمن بسبب الجهل المتفشي بوضوحٍ في اهمية المكان بالنسبة للأجيال الحالية وربما اللاحقة وكم أسفت عندما ارى بغداد وبقية المدن الاثرية الراسخة في القِدم& تفقد عمارتها وميراثها الحضاري& يوما بعد آخر خاصةً في مراكز المدن القديمة ؛ كل ذلك بسبب الجهل بأهمية التراث المعماري العراقيّ والتوسع العشوائي في البناء دون النظر الى قيمة الموروث الحضاري في هندسة البناء الذي شيّده أجدادنا وآباؤنا عمراناً يعيش في نفوسنا ويخلد في ذاكرتنا الفردية والجمعية
ويبدو ان الموروث الحضاري لعاصمتنا ومدننا التاريخية الاخرى مهددٌ بالزوال نظرا للتوسع غير المدروس والتمدد العمراني الذي لا يعبأ بأهمية المكان التاريخي كقيمة حضارية سواء من المسؤولين في امانة العاصمة او بلديات المحافظات التي يهمّها امر الحفاظ على ارث المدن وصيانة معالمها ، بل وحتى المهندسون والمثقفون والمعنيون بالآثار لايعيرون بالا لما يجري من تخريب متعمد
يؤسفني القول ان اجيالنا الحالية لم يتغلغل في اعماقها حبّ التراث المعماري والاهتمام بالبناء العتيد الذي شيّده اسلافهم& وهي غير مهتمة ببقائه أو صيانته والحفاظ عليه بقدر مايهمها انشاء جثامين من الاسمنت ترقد على صدور ابنيتنا العتيدة فتضيق بخناقها حتى تموت انتحارا ثقافيا مزيلة كل ماهو جميل في صروحنا المعمارية الاثرية الخالدة في نفوسنا بعد طمرِها وجعلها انقاضاً تُرمى خارج التاريخ وشيئا فشيئا يتمّ نسيانها ومحوها من الذاكرة الجمعية للعراقيين
ألم يدر بخلَد هؤلاء الاجيال الضالة التي نسيت تاريخها واهتمت بحاضرها فقط ان الاثر القديم هو روح الامة وعنوان خلودها وبقائها ، فلتنظروا الى مدن العالم العميقة الجذور في التاريخ مثل روما وباريس ولندن وغيرها من مدن الشرق ايضا حيث يمنع فيها بناء ايّ صرحٍ حديث مهما كانت اهميته العمرانية والاقتصادية لو تطلّب الامر ازالة معلم تاريخي قديم ويمنع ايضا اقامة الابنية الحديثة بجانب الآثار التاريخية كالمتاحف والقلاع& والأسوار والقصور القديمة ، ففي مراكز هذه المدن ووسطها لاتوجد ابنية مشيدة حديثة تشوه معالم المدينة القديمة وماعلى المستثمرين في مجال تجارة العقار الاّ الابتعاد عن هذه المعالم التراثية القيّمة وتشييد مايريدون& في الضواحي البعيدة لتكون بمنأى عن هذه الصروح القديمة التي تمثل روح الشعوب وعنوان مجدها التليد ورمز من رموزها الذي يريدونه ان يبقى خالدا معبّرا عن حالة الزهو والشموخ في ارثها العمراني
ومع قدم هذه الاماكن واحتمال تعرضها الى التلف بفعل تقادم الزمن ومؤثراته السلبية نجد أنّ هؤلاء يشمّرون عن سواعدهم لاجل صيانتها بين مدة وأخرى لتعود الى سابق عهدها مع الحفاظ على سماتها التاريخية الخالدة ونقوشها وزخارفها ومعالمها التي تتميز بها ، وقد اتيحت لنا قبلا فرصة زيارة تلك المدن والتجوال في شوارعها الضيقة والإطلاع على اماكنها العريقة فتحسّ انك تمشي وسط متحف وتتطلع الى جلالة التراث المعماري وفنونه عبر اجيال سبقتنا عصورا طويلة لكنها ظلّت محافظة على تميزها وتشير الى مراحل بنائها بكلّ فخر واعتزاز
أعترف اني لا أخفي جزعي وغضبي حينما ازور مدينتي العتيدة النجف الاشرف بين الفينة والأخرى وأجول في شوارعها القديمة وأسواقها وأزقّتها وأحيائها التي كانت يوما ما ملاعب طفولتي وصباي وأدور حول ضريح الامام علي / كرّم الله وجهه& فأكاد استشيط غضبا من تشوهات البناء الذي خرّب معالم مدينتي القديمة& واشعر اني غريب لا اعرف مداخلها ومخارجها والى اين اسير ، وأنا ابنها البار مولدا ومحتدا ومنبتاً ولا اعرف تلك الملامح التي عهدتها في ارض الغريّ السمحاء اذ امّحت تلك الاماكن الاثرية الخالدة التي كانت تحيط بالصحن العلويّ وأسائل نفسي ؛ اين اختفت ادراج محلّة العمارة وسوقها الاثير بسقائفهِ المخروطية وأزقّتها الملتوية في ذاكرتي ومامصير ذلك السور القديم الذي كان يحمينا ويحيط ببيوتنا أمنا وسلاما وخلودا وسكينةً ... وأنا هنا أؤكد اني لست ضد الرقيّ العمراني وتوسعة مداخل ومخارج الصحن الشريف لكن الاماكن الاثرية الخالدة في ذاكرتنا كان لزاما ان تؤخذ بنظر الاعتبار لتبقى بدلا من هدمها وجعلها نسيا منسيا
أما عن بغداد الساحرة ؛ فكثيرا ما يطيبُ لي بين فترة واخرى ان اتجوّل وسط مدينة بغداد وأتطلع الى مابقي من معالمها لعلّ نسائم عليلة من عبق ماضيها تمرّ بي وتنعش دواخلي وتشرح صدري غير اني أفاجأ بين كل جولة واخرى& وارى في شوارعها ومحلاّتها وأسواقها& معالم قد اختفت وأخرى قيد الهدم والزوال مما ولّدَ فيّ شعوراً بان ميراثها الحضاري والمعماري يكاد يختفي تماما في غضون السنوات المقبلة ان لم تتخذ الجهات المسؤولة المعنية& الاجراءات العاجلة حفاظا على موروثنا المعماري والابنية التراثية العريقة
وبسبب التمدّد العمراني غير المدروس والجهل باهمية التراث لهذا الجيل الحاضر بيننا وللاجيال المقبلة والجشع الذي يتغلغل في نفوس ورَثة مالكي العقارات القديمة وهدمها وبيعها لتجّار عقارات هدفهم اكتناز المال وممارسة مضارباتهم العقارية غير مبالين بأهمية وقيمة المكان وذاكرته ؛ اذ يقوم هؤلاء بإغراء الورثة او مالكي العقارات بالمال حيث أوصلوا قيمة الممتر المربع الى اسعار قد تصل الى عشرة آلاف دولار اميركي للمتر المربع الواحد في مركز المدينة وفي المناطق التجارية الثريّة وسط العاصمة ، ناهيك عن الدور السلبي لأمانة بغداد وإهمالها الكثير من اماكن ومعالم بغداد الاثرية مثل الخانات والأسواق القديمة والحمّامات والبيوت البغدادية ذات الطراز الفريد والتي اخذت تختفي تدريجيا ولا أحد يمدّ يديه لانتشالها من الاهمال والواقع المزري الذي تعاني منه
أما كان الاجدر ان تقوم امانة العاصمة باستملاك تلك الدور والأماكن الأثرية والعمل على صيانتها وتأهيلها من اجل حفظ معالم ذاكرتنا البغدادية ؟؟ أما يمكن ان يتم جعلها اماكن سياحية ومكتبات ومتاحف صغيرة ومزارات ثقافية بالتنسيق مع الجهات السياحية ووزارة الثقافة وغيرها من الدوائر المعنيّة مثلما تفعل المؤسسات الثقافية والسياحية في اوروبا وبقية العالم المتحضر ؟!
ومما آلمنا اكثر هو ظهور تقليعة جديدة يمارسها اصحاب العمارات والمباني عبارة عن تغليف الابنية بصفائح معدنية جديدة من الالمنيوم او اية مادة اخرى وإخفاء اية معالم جميلة متبقية مما يسمونه عاملو الديكور ب " الكوموند " دون ان تقوم الامانة بأيّ دور لمنع مثل هذه الممارسات التخريبية شبه المقصودة التي تهدف الى مسخ وطمس ماتبقّى من آثارنا العتيدة ومعالمنا الجميلة ، ففي الوقت الذي نرى مثل هذا الاهمال الواضح من قبل امانة بغداد فهي ايضا تسكت عن كل اجراء اخرق لتشويه معالم بلادي .. ولولا دأب محافظة بغداد التي شمّرت عن سواعدها وعملت على تأهيل وإحياء بعض الاماكن التراثية مثل تأهيل مبنى المحكمة العتيدة في المتنبي وتحويلها الى المركز الثقافي البغدادي لعاش البغداديون في جدب لايحتمل& ، ولم تكتفِ المحافظة بذلك بل قامت بفتح وتوسعة ساحة القشلة ورصفها بالبلاط القديم وفرش الساحة بالزهور وإعادة تشغيل ساعة القشلة مما يبعث على السرور والبهجة للزائرين حيث عملت على إحيائها وبعثها من جديد وصارت حقاً معلما حضاريا جديدا ومزاراً ثقافيا جميلا وملتقى رائعا يمتع الانظار ويبعث البهجة في النفس وهذا مالمسته خلال زيارتي لهذه الساحة مؤخرا
ما الضير لو تمّ بذل المزيد من الاهتمام بإرث ماضي عاصمتنا الغالية العريقة كي نعيد جزءاً ولو يسيراً من مجدها الغابر وإحياء معالمها الراسخة في اعماقنا ومخيّلتنا وحبذا لو تترسخ بعض مسرّات بغداد المنسيّة على ارض الواقع من اجل نشر البهجة والسعد في نفوسنا الباحثة عن الجمال المضاع في وجه بغداد الحزينة الموجوعة المدمّرة في اجزاء عديدة من ضواحيها وأماكنها وشوارعها ومحلاّتها وأحيائها
ايها المسؤولون المعنيون ، هونا على ارثنا المعماري التليد ، حافظوا على هويتنا التاريخية المعمارية ، ابقوا شيئا من عبق الزخرف العراقي المتمثل في الشناشيل والنقوش الجميلة البارزة على جدران ابنيتنا الموغلة في العراقة ، اجعلوها ظاهرة للعيان لتؤنس انظارنا ونستريح لبروز معالمها ويكفينا تراكم الخراب العائم في ارضنا ونفوسنا ولاتجعلونا نحزن على موروثنا المعماري الذي أوشك ان يُمحى فقد شبعْنا بكاءً على احوالنا المزرية ولم نعد نحتمل البكاء على اماكننا العريقة الجميلة قبل ان تحيلوها طلولاً وتجرفوها رميا في حاوية& النسيان
اجل بغداد تريد منّا الكثير من الرعاية والاهتمام مثلما بقية مدننا المقدسة سامراء وكربلاء والكوفة وبصرة الشناشيل الچلبية فكل حواضر العراق عريقة كاسمهِ ، فلْنعطها ولو كان عطاؤنا يسيرا ، فيا أيها المسؤولون والمعنيون في امانة بغداد وبلديات المحافظات التاريخية العتيدة ووزارة السياحة والآثار ووزارة الثقافة أقول ؛ لاتستحوا من إعطاء القليل لعاصمتنا ومدننا الخالدة فالحرمان أقلّ منه

[email protected]
&