من المتفق عليه أن أية حرب، لكي تنجح وتحقق أهدافها، لا بد لها من عمل ميداني على الأرض وليس فقط من خلال القصف الجوي والمدفعي عن بعد. وهذا هو دور الاستخبارات التي تتسلل إلى عمق أراضي العدو وتجمع كل ما يمكنها من معلومات أساسية بغية توجيه الضربات الجوية والمدفعية ضد أهداف محددة إلى جانب بث المعلومات الخاطئة والمضللة وتجنيد العملاء وممارسة سياسة الترهيب والترغيب والقيام بعمليات اغتيال دقيقة لقيادات العدو كلما أمكن ذلك الخ..
بعد أن تأكد خطر دولة الخلافة الإسلامية أو التي أعلنها تنظيم داعش الإرهابي في أجزاء من العراق وسوريا، على الدول العربية النفطية في الخليج، ودول عربية أخرى كالأردن ولبنان ومصر وليبيا ودول المغرب العربي، وعلى الغرب برمته، ودول إقليمية مهمة كتركيا وإيران، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها خاصة في أعقاب ذبح صحفيين أمريكيين، هما جيمس فولي و ستيفن سوتلوف، بطريقة همجية بشعة على يد جلاد في داعش، وبث الجريمتين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الحدث الذي خلق صدمة لدى الرأي العام الأمريكي والعالمي، تحركت الولايات المتحدة الأمريكية بقوة، من خلال تشكيل تحالف دولي واسع لاستئصال وتدمير هذا المسخ الإرهابي المتوحش المسمى داعش. وبذلك تم تحديد الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش كعدو يجب مهاجمته وتدميره كلياً. ومن هنا قررت قمة دول حلف شمال الأطلسي الناتو، تشكيل هذا التحالف الدولي ضد الجهاديين الإرهابيين المتمركزين حالياً في بقعة جغرافية محددة خلقوا فيها مسخ دولة أسموها دولة الخلافة الإسلامية، التي باتت تمتلك الموارد المالية الذاتية وعشرات الآلاف من المقاتلين المتطوعين، العرب والمسلمين والأجانب، وتجند المزيد منهم يومياً، مما يعني تفاقم خطرها وتهديدها للأمن والاستقرار العالمي. فكيف يمكن مواجهة مثل هذا التحدي الخطير لا سيما وأن الجهاديين ينشدون الموت ولا يهابونه كما يبدو من إعلامهم ومنشوراتهم وأدبياتهم حيث يعلنون أنهم جاءوا ليستشهدوا؟ يبدو للمراقبين أن أجهزة الاستخبارات الدولية لم تفاجأ بظهور داعش وانتشارها. وكان خيار التنظيم الإرهابي في إعلان الدولة الإسلامية مقصوداً ومدروساً، ويمثل رهاناً يختلف تكتيكياً عن إستراتيجية تنظيم القاعدة الدولي الذي يخوض صراعاً شاملاً ضد الغرب وحلفائه من الأنظمة التي تحكم العالم الإسلامي، في حين أن داعش تخوض صراعاً محلياً في الوقت الحاضر يقتصر على رقعة جغرافية محددة محصورة بين العراق وسوريا كنقطة انطلاق لمشروع توسعي لاحق حين تتهيأ الظروف الملائمة لغزو المناطق الأخرى المجاورة عن طريق سياسة القضم التدريجي. كانت أجهزة المخابرات الغربية تراقب عن كثب المشهد الإرهابي والحربي في سوريا والمواجهات الدامية بين الجهاديين الإسلامويين من داعش وجبهة النصرة والجبهة الإسلامية وغيرهم ضد قوات النظام السوري على أمل أن تتمكن تلك العناصر الإرهابية الإسلاموية المسلحة من الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد دون الحاجة لتدخل عسكري خارجي يصطدم بتعقيدات وقيود القانون الدولي والفيتو الروسي والصيني، بيد أن قوات النظام السوري لم تتمكن هي الأخرى من القضاء كلياً على القوى الإسلاموية المسلحة ولم تتمكن هذه أخيرة من إسقاط النظام السوري لأنه يتمتع بدعم إيراني روسي ومن حزب الله اللبناني، ولقد سقط أكثر من 3000 إرهابي من أعضاء تنظيم داعش في تلك المواجهات الدامية. أكدت مصادر موثوقة أن أجهزة المخابرات تابعت عن كثب حيثيات تكوين الدولة الإسلامية لكنها لم تدرك طابعها العابر للقارات والحدود ولا أهمية المجندين القادمين من الخارج من دول غربية متعددة للانضمام إليها مما يعني أن أجهزة المخابرات أغفلت أو قللت من أهمية وتأثير هذه الظاهرة سياسياً وعسكرياً بالرغم من سيطرة داعش منذ شهر يناير كانون الثاني على مدينة الفلوجة العراقية بالكامل وأجزاء واسعة من محافظة الأنبار كالرمادي وغيرها،واستقطابها لمئات من المقاتلين الأجانب و التي يمكن اعتبارها مؤشراً خطيراً على ما سيتبعها من تطورات، تمثلت بمأساة احتلال الموصل، وتهديد إقليم كردستان العراقي على نحو مباشر، وقتل وذبح وتهجير الأقليات الدينية كالمسيحيين والأزيديين والشيعة وغيرهم، لإدراك طبيعة الخطورة التي يمثلها تنظيم داعش. المشكلة التي تواجهها أجهزة الاستخبارات الغربية حالياً هي شبه استحالة اختراق هذه الدولة المسخ والتسلل الى داخل هذا التنظيم الهمجي الشديد العنف والوحشية. ففي مرحلة الجهاد في أفغانستان كان من السهل على الاستخبارات الغربية تشخيص العناصر والامتدادات والفروع المؤيدة والداعمة والمساندة لتنظيم القاعدة الإرهابي في مناطق مثل لندن ستان وطرق الإمداد من لبنان والباكستان للوصول إلى مراكز التدريب في أفغانستان وبيشاور وفي المعسكرات الموجودة في وزيرستان على الحدود الباكستانية الأفغانية حيث يذهب المتطوعون للقتال ضد قوات الغزو السوفيتي. ولقد تطور الأمر اليوم إلى استعداد المتطوعين للموت في عمليات انتحارية مؤكدة فلو أرسلت الاستخبارات عملاء لها للتطوع واختراق التنظيمات الإرهابية فإن مصيرهم هو الموت الحتمي لأنهم سوف يذهبون مرغمين، إن آجلاً أم عاجلاً، للقيام بعمليات إرهابية انتحارية. ولا يجب أن ننسى أن أتباع صدام حسين قد انخرطوا في التنظيمات الإرهابية الإسلاموية وهم الذين يقودون اليوم داعش والنصرة وأمثالهما في العراق وسوريا وأغلبهم عسكريين محترفين ومدربين في الحرس الصدامي الخاص وفدائيي صدام وعناصر المخابرات العراقية الشرسين والدمويين. التجنيد متعدد الجنسيات للعناصر الإرهابية في داعش يمثل صعوبة إضافية لدوائر الاستخبارات الأجنبية على عكس ما كان عليه الأمر حيال خلايا تنظيم القاعدة المنطوية على نفسها، فوجود هؤلاء الجهاديين الأجانب يتيح لتنظيم داعش معرفة كل شيء تقريباً عن جميع الدول التي يأتي منها هؤلاء كفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وهولندا وبلجيكا وأمريكا وغيرها. يضاف إلى ذلك تمكنهم من أدوات الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي كالانترنت والفيسبوك وتويتر التي توفر لهم تأثير كرة الثلج المتدحرجة في مجال التشدد الفردي لأعضائها والتأثير على العقول والأذهان. فتنظيم داعش الإرهابي تحول على أرض الواقع إلى ما يشبه الدولة الحقيقية ويتصرف كدولة في الوقت الحاضر حيث تبسط داعش سيطرتها على كافة المجالات في المناطق التي تسيطر عليها ولم يعد الأمر كما هو الحال مع التنظيمات لإرهابية السرية كالقاعدة المتواجدة في كل مكان ولكن بصورة خفية وسرية لأنها مطاردة من قبل الأنظمة وأجهزة مخابراتها في الدول التي ينشط فيها تنظيم القاعدة، فوضع دعش اليوم يشبه الى حد ما القوى المسلحة الثورية في كولومبيا المسمى فارك FARC التي تحل محل الدولة الرسمية في الأراضي والمدن التي تحتلها وتقوم بإدارتها وهذا يخلق مشكلة وصعوبات إضافية أمام دوائر الاستخبارات بشأن كيفية التصرف داخل أراضي تغيب فيها سلطات الدولة الشرعية والنظامية لأنها خارجة عن سيطرتها وتدار بشدة وعنف من قبل تنظيمات إرهابية متمرسة.
وفرت الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش لنفسها موارد مالية، لا سيما من مبيعات النفط المهرب، وأسلحة متطورة غنمتها من القوات السورية والعراقية أو اشترتها من السوق السوداء ولكن لا ينبغي المبالغة في ذلك فالولايات المتحدة الأمريكية تبالغ في إمكانيات هذا الكيان المسلح بعد أن حولته إلى عدو رئيسي لها كما فعلت سابقاً مع صدام حسين ووصفت جيشه بأنه رابع جيش في العالم وهو وصف لا علاقة له بالواقع الحقيقي للجيش العراقي آنذاك، كما ضخمت من إمكانيات وقوة تنظيم القاعدة عندما أعلنت الحرب على الإرهاب الدولي المتمثل بالقاعدة وغزوها لأفغانستان والعراق، فعدد المقاتلين الحقيقيين لدى داعش، وليس العدد المبالغ به الذي أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية، يتجاوز بقليل الإثني عشر ألف مقاتل والباقي مجرد أتباع هم بمثابة إكسسوار للقيام بالمهمات الإدارية والمراقبة والردع وتكثيف الحضور الميداني لدوافع نفسية لا أكثر، وهذا العدد غير كافي من الناحية العسكرية لإحكام السيطرة والدفاع عن أراضي شاسعة تمتد من شمال وغرب العراق إلى شمال وشرق ووسط سوريا، ومع ذلك فإن الدولة الإسلامية هي قوة مسلحة غير قابلة للاختراق مخابراتياً.&
وعلينا أن نعترف بأن هذا التنظيم الإرهابي نجح في استغلال سبعة حقول نفطية في العراق وسوريا ويبيع نفطها عن طريق التهريب وتدر عليه ملايين الدولارات يومياً واستحوذ على أكثر من 400 مليون يورو من فرع البنك المركزي العراقي في الموصل، بيد أن ذلك لا يشكل وحده اقتصاد دولة حقيقية تحظى بالديمومة فتهريب بترول غير معالج ونهب بنوك لا يمكنه أن يشكل قوة اقتصادية دائمة ومتطورة قابلة للنمو، لكنها تجعل من داعش أقوى وأغنى منظمة إرهابية في العالم ويمكنها من دفع رواتب لمقاتليها ولأراملهم وخلق أجهزة مخابراتية بدائية للتجسس أو لمكافحة التجسس، وخلق دوائر مغلقة لأخذ الأتاوات والفدية مقابل إطلاق سراح المختطفين والرهائن دون الحاجة لتمويل الخلايا النائمة التابعة لها كما تفعل القاعدة، لكن ذلك لا يجعل منها خطراً يهدد العالم إلا إذا عمدت إلى مهاجمة مصادر الطاقة والبترول في الخليج التي يعتمد عليها الغرب، ونجحت في تأجيج مجابهة طائفية شاملة بين المكونين الرئيسين للإسلام أي السنة والشيعة داخل العالم الإسلامي. أجمعت كل أجهزة المخابرات الغربية أنها لن تتمكن وحدها دحر الدولة الإسلامية ولا بد من التعاون الدولي على كافة المستويات بما فيها الإستخباراتية رغم تباين المصالح لأن نوايا تنظيم داعش باتت واضحة وسوف يضرب هذا التنظيم الإرهابي إن آجلاً أم عاجلاً في عمق البلدان الغربية خاصة بعدة عودة عدد من مقاتليها الأجانب من أصل غربي أو أصل عربي وإسلامي من المقيمين في الغرب أو يحملون جنسيات الدول الغربية خاصة، ربما كرد فعل انتقامي من الدول التي ستنضم للتحالف الدولي الذي تحضره الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف شمال الأطلسي، فداعش لن تكتفي بمقاتلة من يعارضها في العراق وسوريا فحسب، بل ستضرب دول المنطقة كلها وسوف تتمدد اعتداءاتها إلى خارج الحدود الإقليمية كما حدث مع تفجير المتحف اليهودي في بروكسيل في حزيران الماضي. التعاون القائم حالياً بين أجهزة الاستخبارات يجري على مستوى عالي وهناك تعاون فعال مع أجهزة إستخباراتية خليجية أيضاً لأن عدوها بات على الأبواب فالعراق هو الجوار المباشر للخليج ويحتاج الأمر كذلك إلى نضال مرير مضاد للأيديولوجية الداعشية فدعوتها لتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة الإسلامية يشكل مصدر خطر أيديولوجي لأنها تلجأ إلى الهوية الدينية ووضعها فوق الهوية الوطنية لضمان مبايعة المسلمين لدولة الخلافة الإسلامية. المعضلة التي تقف أمام مشروع محاربة داعش دوليا هو كيفية التعاطي مع النظام السوري وإقامة خيوط اتصال مع المخابرات السورية بالرغم من القطيعة السياسية والدبلوماسية بين الغرب والنظام السوري إذ لا بد من تعاون أو تنسيق ما بين الجانبين لمواجهة العدو المشترك وهو داعش الموجود على الأراضي العراقي والسورية. فلن يكون ممكنا الاقتصار على الأراضي العراقية في هذه الحرب ولا بد من التنسيق مع إيران وسوريا وروسيا لمحاصرة داعش من الجانب السوري و لا بد من الاستفادة من خبرة المخابرات الأردنية في هذا المجال وهي تتعاون جداً مع المخابرات الأمريكية وعدد من أجهزة المخابرات الأوروبي لا سيما الفرنسية والبريطانية والألمانية، وكذلك التعاون مع المخابرات التركية أيضاً باعتبارها عضواً في حلف الناتو لتسهيل تطويق داعش وكشف قادتها الذي عبروا إلى سوريا والعراق عبر الحدود التركية في مرحلة ما في بدايات التمرد المسلح في سوريا. على الغرب أن يتصرف ببراغماتية أكبر مع النظام السوري مرحلياً رغم الرفض المعلن إعلامياً للتعاون أو التنسيق مع النظام السوري لأنه بخلاف ذلك سيكون ضرب التجمعات والقواعد الداعشية داخل الأراضي السورية بدون موافقة النظام الرسمي السوري بمثابة خرق للسيادة وانتهاك للقانون الدولي وتحدي للرفض الروسي والصيني والإيراني والسوري حيث لا بد من ترخيص دولي من مجلس الأمن وموافقة مبدئية من جانب النظام السوري لاختراق الأجواء السورية في الحرب القادمة على داعش.
&