ما لا أستطيع أن نلمسه، أو نلمس تأثيراته المادية، لا يؤثر في حياة الإنسان، فهو بالنسبة له يكون والعدم سواء. الوجود بهذا المعنى، ليس صفة خاصة بالموجودات المادية، فهذا يأتي في الدرجة الثانية أو التالية، لكنه بالأساس مرتبط بالوعي الإنساني "العقل حسي"، أي الوعي الذي يدرك ويتمثل ما ترصده الأحاسيس الإنسانية، سواء بطريقة مباشرة عبر الحواس الإنسانية الخمس، أو بطريقة غير مباشرة، عبر استعانة الحواس الإنسانية بوسائط تكنولوجية، ترصد التأثيرات والظواهر المادية، التي تعجز الحواس الإنسانية عن رصدها مباشرة. وقد يكون هذا الرصد أو الوعي بالموجودات رصداً لتأثيرات العناصر المادية ذاتها على أداة الرصد، كما قد يكون رصداً لعلاقات متبادلة بين العناصر، مثل رصد القوانين الفيزيائية والتفاعلات الكيمائية. الوجود إذن مرتبط بالتأثير من وجهة نظر الإنسان، "غير المؤثر" بالنسبة له "غير موجود"، كما أننا نتعامل وندرك التأثيرات، ولم ولن نصل إلى الأشياء في ذاتها. يعني هذا الكلام أيضاً أن "دائرة الموجود" تتوسع وتضم المزيد من الحقائق والعلاقات المادية، مع تطور الوعي الإنساني واتساع مجال وقدرات رصده للموجودات.
الفكرة هي وصف للمادة وعلاقاتها، وبالتالي لا يمكن أن تكون سابقة عليها. الوجود existence& يسبق الكلمة logos. تشكل هذا الكون عقب الانفجار الكبير منذ ما يقرب من 14 مليار سنة، وهو الآن آخذ في التمدد. ومتوقع أن يبدأ بعد ذلك في الانكماش، ليعود من حيث بدأ، كتلة سوداء أبعادها صفر (الصفر ليس العدم، بل هو الرقم الأقل من أي رقم). بعدها لابد وأن يعاود الانفجار، ليشكل كوناً جديداً. ويستمر هكذا في دورات متعاقبة بلا نهاية. ليكون من المنطقي أن يطرأ سؤال، عن رقم الدورة الكونية التي نحن فيها الآن.
الفوضى في الكون هي القاعدة. والانتظام مجرد استثاء ومحض صدفة، تستند لعدد محدود نسبياً من القوانين الفيزيائية، مقارنة بحجم المادة. ما يستشعره الإنسان من انتظام في الكون، هو مجرد اختيارات تعسفية، قادته إليها عناصر إنسانية ذاتية. فالقوانين الفيزيائية التي ترجع إلى خواص المادة، صارمة وكونية إلى درجة شبه مطلقة، وما لم يكتشف بعد منها، يسعى الإنسان لأن يصل لاكتشافه. وتؤدي هذه القوانين لتشكيل منظومات فيزيائية محكمة ومنضبطة إلى حد بعيد، وإن لم يكن مطلقاً. أما الفوضى فتأتي على المستوى الكبير Macro، من العدد اللانهائي من العلاقات الممكنة بين عناصر المادة الكونية هائلة الحجم، مما يؤدي لوجود تشكيلات ومنظومات لاغائية، وهذه هي العشوائية المركبة، والتي تصادف أن إحدى المنظومات، كانت صالحة لظهور حياة راقية، في واحدة من مكوناتها. هناك أيضاً العشوائية البسيطة، والتي تتمثل في أن حجم المادة الكونية غير المنتظمة في تشكيلات، وتسبح في عشوائية، أو تعد جزءاً من المادة السوداء والطاقة السوداء، هذه كلها تفوق في الحجم مليارات المرات، حجم المادة المنتظمة في تشكيلات.
وتظهر الفوضى بذات الحجم في الجانب البيولوجي، وهو ما نشهده في الأعداد شبه اللانهائية من الكائنات الحية، والتي تتكاثر أنواعها مع الوقع الوقت، علاوة على الاحتمالات اللانهائية المفتوحة لتكاثرها وتنوعها العشوائي.
هناك قضية أخرى أكثر غموضاً، وهي أن الإنسان بتكوينه العقلي والبيولوجي والمادي، يعيش ويكتشف ويوظف ما يجده من الكون، منتمياً لذات مجموعة القوانين التي ينتمي بتكوينه هو إليها. هنا يصعب الجزم بعدم تواجد عوالم أخرى في الكون، تتشكل من مجموعات أخرى من القوانين، مغايرة تماماً للقوانين التي يعيش في ظلها الإنسان، وهي ما تعد وفق مفهومنا للوجود، غير موجودة.
ما اعتبرناه حالة فوضى كونية أو "محيط عشوائي" يسبح فيه العالم الإنساني، هو الأساس الذي تتحقق عليه حرية وثراء الإبداع الإنساني. فهذا الكم الهائل المتاح من المادة، بخصائصها الطبيعية، والتي تتيح عدداً لانهائياً من العلاقات فيما بينها، كما كانت عاملاً على تفاقم عشوائية المنظومات، فإنها أيضاً تمكن الإنسان من إقامة ما يعد "جزيرة من الانتظام"، عبر منظومات يشكلها من العناصر الأولية، تتمحور حول الإنسان، الذي يصبح من خلالها هو السيد.
[email protected]
&