كثير من العراقيين علقوا آمالا على النظام الذي انبثق في 9نيسان من عام 2003 بأن يكون زاخرا بالخير والأمن والهناء، فقد عانوا كثيرا مما جلب النظام السابق لهم من حروب وقمع وحصار وشقاء! لكن ما تحقق كان غير ذلك تماما، كان الجحيم نفسه، أهواله فوق طاقة البشر، ما جعل البعض يترحم على أيام النظام السابق!

خلال أشهر قليلة صارت الدولة المفككة المنخورة؛بقيادتها الجديدة منتجة للإرهاب والفساد ومستهلكة له، فهي مجرد آلة لتفريخ الإرهابيين والفاسدين من خارجها وداخلها، وبقدر ما أخذ الإرهابيون والفاسدون بتدمير الحياة والإنسان،أصبحوا أيضا المادة الاستهلاكية الوحيدة للدولة؛ فهي قد خضعت لهم وعجزت عن وضع حد لجرائمهم وعبثهم.

لكنها بدت مرتاحة لهم فقد وجدت بهم عذرا عن فشلها في تقديم الخدمات والاستثمارات في البناء أو الصناعة والزراعة والتعليم والثقافة، وغطاءا لسرقات رجالها ونسائها ونهبهم ثروات البلاد.

كل ما استطاعته هذه القيادة المتخلفة هو إشاعة جو من الحداد العام الدائم في البلد في مسيرات البكاء واللطم المليونية والتي صارت اللحن الجنائزي المطابق لهذا الخراب العام، أكثر مما هي شعائر دينية!

هل اجتياح الدواعش والفاسدين للعراق باسم السنة، وباسم الشيعة يعود لقوتهم كجيوش سرية زاحفة لا ترى كأنها تسير في أنفاق تحت الأرض؟ أم لضعف الدولة القائمة ولعمق خللها وأمراضها وعيوبها الكبيرة منذ التكوين والولادة؟

من الواضح أن دولا كثيرة في المنطقة والعالم كانت قد تعرضت لضغوط الإرهابيين والفاسدين لكنها لم تتحول إلى دولة فاشلة كدولة العراق! ترى لماذا لم تقم دولة صحيحة معافاة طيلة أكثر من عقد مضى رغم أنفاق ترليونات الدولارات عليها؟ العلة الكبرى في ذلك؛ هي أنها لم تقم على أسس سليمة!

لم يكن ما تجرعته هذه الدولة من دخان حرب نيسان 2003،ومن رذاذ أفواه قادة المعارضة ومراجعهم مختلطة بأنفاس جنرالات الاحتلال؛ مجرد هواء في شبك، لقد تحول إلى أفعال مادية راسخة متكلسة في أحشائها فولدت هجينة مسممة مشوهة!

عندما أسقط الأميركان نظام صدام؛ لم يختاروا لحكم العراق سلطة وطنية لبرالية علمانية متآلفة، مقابل معارضة سلمية ناضجة، من كل الأطياف السياسية القائمة، كما يفترض بهم كلبراليين علمانيين أو حضاريين كما يدعون!

لقد نصحهم عقلاء وساسة مخلصون في الداخل والخارج لبدء فترة انتقالية لخمس، أو ثلاث سنوات يعد خلالها دستور وطني ناضج وتهيأ فيها البلاد لانتخابات متكافئة، وتتكون نخب مثقفة جديدة مشبعة بروح ديمقراطية وحضارية! محذرين أن القفز على ذلك يعني أن الدولة ستقع بأيدي دعاة الدين والطائفة،وهم إضافة لجهلهم وتخلفهم وظلاميتهم؛ معبأون بكل أحقاد وعنعنات الماضي مما سيضع البلاد في طريق الصراعات الدموية!

لكن الأميركان أشاحوا عن كل ذلك، و قاموا بلعبتهم الخبيثة الماثلة فظل العراق يدفع ثمنها غاليا جدا؛ حتى اليوم!

فهم قد سلموا ما تبقى من الدولة العراقية لأحزاب وجماعات دينية طائفية متخلفة، مبرقعة بالوجه الشيعي تقطر حقدا على الطائفة الأخرى، متحالفة مع متزعمي الكرد الذين هم أيضا لهم أطماعهم وحساباتهم الطويلة والمعقدة مع السنة!

ومن الجهة الأخرى فتحوا حدود العراق للجناح المتبرقع بالوجه السني ممثلا بالقاعدة، ليقوم بدور الجهاد والمقاومة،.وليرغم جانبا من المحيط السني على احتضانه والسير وراءه مستغلا استياء السنة ورفضهم وشعورهم بالغبن والظلم!

لكن القاعدة عاجزة طبعا عن تقديم أي شيء، سوى الأسوأ، لذا جعلت فقراء الشيعة الكادحين في ساحات وشوارع المدن يدفعون ثمن سلطة ورفاهية متزعميهم، وكان هؤلاء يطلون من نوافذ قصورهم على حرائق بغداد، وأشلاء الضحايا ويمضون سادرين في نهجهم الطائفي!

لم يكن يهم الأميركان أن يقتل جنودهم أيضا، كانوا وبحماقة مضحكة مريرة يقولون إنهم يغرون الإرهابيين ليأتوا من الخارج إلى العراق، فيقتلون بالكثير من الرصاص الذي ينتظرهم في العراق بعيدا عن أميركا! وفق قاعدة سماها بعضهم (قصعة العسل والذباب)،لكنهم أثبتوا أن كل ما يقصدونه هو جعل العراقيين مفتتين متصارعين في أسوأ تطبيق دموي لقاعدة "فرق تسد"!

يزعم مسؤولون أمريكيون بما فيهم بول بريمر وإن قالها بلغة أخرى في مذكراته؛ أنهم فعلوا ذلك مضطرين لأنهم وقعوا تحت ضغوط متزعمي ومراجع الشيعة، ومتزعمي الكرد الذين كانوا مستعجلين متلهفين للإمساك بصولجان السلطة قبل أن يخطف من أيديهم، فهم كانوا مبهورين غير مصدقين أن كل هذه النعم والسلطات قد هبطت عليهم، يتلفتون، وفي هواجسهم أن ثمة أشباحا تطاردهم؛ تريد إرجاعهم إلى ليالي تيههم الطويلة!

لذلك هم بعد أن اقتسموا قصور السلطة، والبيوت الفخمة للمسؤولين الكبار السابقين في بغداد والمدن الأخرى، وحولوها إلى مساكن لهم، ومقرات لأحزابهم،ومكاتب لعقد صفقاتهم التجارية، وتحويل أموالهم إلى الخارج، راحوا يضغطون على بول بريمر لحل الجيش وأجهزة الشرطة وكل الأجهزة الأمنية الحساسة التي كان بالإمكان بدلا من إنهاءها؛ تطهيرها بطريقة قانونية عادلة؛ لتغدوا صالحة للعمل في العهد الجديد!

فلا يتحول الكثير من أفرادها إلى إرهابيين، أو يتيح غيابها للإرهاب أن ينمو ويتصاعد، ويتحول إلى ما نراه اليوم من دواعش!

كان المنتظر من المرجعية الشيعية في النجف كمؤسسة روحية كما تطرح نفسها، أن تأتي بموقف مختلف عن السياسيين وأصحاب الأحزاب الشيعية، ولا تنساق معهم في دعوتهم للفصل الطائفي كما الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وتطلق هي رسالة مغايرة لما ورد في إعلان شيعة العراق، وأن تنبري للدعوة للتسامح والغفران والمصالحة الوطنية وإشاعة أجواء المحبة والتفاهم بين كل الفرقاء، وتمهد لبناء عراق جديد يسوده السلام والأمن؛ لكنها عكس ذلك أظهرت تمسكا بأشياء دنيوية زائلة كما يقولون،وزجت نفسها في العملية السياسية، بل غاصت في كل تفاصيلها!

وقد انبرى المرجع الديني علي السيستاني بنفسه ليلعب دورا كبيرا وحاسما في صياغة ملامح وطبيعة المرحلة، ولم تنقطع المراسلات بينه وبول بريمر،عبر وسطاء معروفين، فراح يستعجل الانتخابات، بل تدخل في كل التفصيلات اليومية للعمل السياسي وبعملية صياغة الدستور، الذي لهوج على عجل، استنادا إلى إعلان شيعة العراق، ومطالب الأكراد الذين أصروا على تضمينه ما سميت المادة 140 خلافا لطرائق صياغة الدساتير التي تعني بالقضايا الأساسية الثابتة والدائمة لا تقبل مطلقا أية مهمة عابرة كقضية كركوك!

كان السيستاني ضامنا أن نتائج الانتخابات سـتأتي بأتباعه بحكم الأكثرية الطائفية المعبأة بالفتاوى والأموال الطائلة!

وهكذا أجريت الانتخابات بمصاريف هائلة من الدولة، ونزلها رجال ونساء طائفيون بامتياز، أنفقوا عليها الكثير من أموال الفساد، والأموال المتدفقة من إيران، وظهرت صور السيستاني على إعلانات ودعايات قائمة (الشمعة)،(الائتلاف الشيعي)، فنالت أصوات الفقراء الشيعة الذين لا يفقهون من مشاركتهم في الانتخابات أكثر من أنهم يلبون دعوة مرجعهم الديني،فكانت النتيجة أشبه بالبيعة الدينية!

فجاءت صناديق الاقتراع التي عبث بها المزورون أيضا، بأسوأ المجموعات الطائفية الموتورة إلى مراكز الحكم، ولم تترك مجالا لأي مما هو موجود فعلا من التكنوقراط والمثقفين وأصحاب الخبرات حتى من الشيعة أنفسهم مجالا للوصول إلى مواقع متقدمة، أو مؤثرة في السلطة!

لقد أثبتت الوقائع أن الساسة الذين هيمنوا على السلطة يعانون خوفا فطريا من المثقفين والعلماء والمفكرين حتى داخل طائفتهم والسبب واضح فهؤلاء يكشفون ضحالتهم وتفاهتهم وحقيقتهم كمتخلفين لا يستحقون حتى الدرجات الدنيا من الوظائف!بينما هم أصبحوا نوابا ووزراء وسفراء إلخ !

وقد ظل هؤلاء الفاقدون لأية خبرة أو أهليه للحكم الإنساني مهووسين بسلطتهم الدينية الطائفية لا ببناء البلاد، يتدافعون للجلوس في قمرة القيادة، دون تفكير ان العربة متوقفة مفككة تالفة وقد أضحت على أيديهم جزءا من ركام ونفايات الحرب!

لكنها صالحة تماما لشفط النفط، وملأ جيوبهم بملايين ومليارات الدولارات! وهذا هو الأهم بالنسبة لهم، لا يهمهم شقاء وتذمر الناس الذين وصلوا إلى مزاج من العدم تساوت فيه الحياة الموت! بل كثيرون فضلوا الموت، فكيف لا يأتي الدواعش من الطائفتين وفق قاعدة "الذباب وقصعة العسل؟

يتبع

الجزء التاسع