تعد جامعة هارفارد إحدى أعرق الجامعات في العالم وأقدمها وأهمها؛ ومجرد الدراسة فيها يعني أن «طاقة القدر» فتحت أمام الطالب ليصبح بلا سقف لأحلامه؛ بما في ذلك حكم العالم، فعلياً لامجازياً. وأعتقد أن أي طالب درس في تلك الجامعة يمتلك نفوذاً، لا في دولته فحسب بل في العالم كله. حيث درس في جامعة هارفارد سبعة رؤساء أمريكيين بما فيهم الرئيس الحالي، وخرّجت أكبر عدد لحاملي نوبل بين جامعات العالم. كما درس فيها حكام العالم الافتراضي؛ بيل غيتس ومارك زوكربيرغ، إضافة لعدد من أثرياء العالم.&
&
وفي «سوريا الجديدة»؛ سوريا الثورة، تربّع خريجو سجن صيدنايا الشهير [تمثيلاً واختصاراً للسجون الأخرى] على عرشها من قيادة التمثيل السياسي إلى قيادة العمل العسكري، والجهادي «المعتدل» والمتطرف؛ وكأنه أكاديمية لتخريج القادة.&
&
وتشمل قائمة «الخريجين» أشخاصاً في أعلى مواقع القيادة في أغلب [إن لم يكن كل] الهيئات والتجمعات والتيارات والمجالس والكتائب والحركات المسلحة؛ أعضاء مجلس وطني، أعضاء إئتلاف، حكومة مؤقتة، مجالس محلية، قادة كتائب إسلامية، مجالس إفتاء، هيئات شرعية، منظرين، كتاب ثوريين؛ حكماء.
&
وقد شكل خريجو «أكاديمية صيدنايا» الواجهة السياسية لتمثيل الثورة السورية، والعسكرية لاحقاً عبر تأسيسهم وانخراطهم في الحركات الإسلامية المقاتلة، لأسبابٍ عديدة أهمها؛ ضحالة التجربة السياسية في بلد تم تجفيف السياسة فيه بشكلٍ تام على مدى أكثر من نصف قرن، حيث أودع غالبية أصحاب النشاط السياسي في السجون لفترات مديدة، بتنويعاته الإسلامية واليسارية والقومية، ناهيك عن الذين خاضوا تجارب المواجهة المسلحة مع النظام، وكذلك عجز الثورة لأسبابٍ موضوعية عن إفراز قياداتها وممثليها.
&
وأمام هذا الفقر المدقع في التجربة والخبرة والقيادات السياسية، اعتبرت التجربة «الحزبية» المحدودة والسرية والضحلة وغير الديموقراطية بديلاً للتجربة السياسية؛ واستخدم خريجو «صيدنايا» رأس المال الرمزي المتأتي عن الاعتقال لتصدر واجهة المشهد الذي صنعته الثورة السورية، رغم أنها كانت ثورة شعبية أطلقها عموم الناس وقادوا حركتها على الأرض، ودفعوا أثمانها الباهضة بعيداً عن التجارب السياسية الضحلة السابقة، بل بقطيعةٍ معها.&
&
لا يتوقف الأمر عند قرصنة خريجي صيدنايا لتمثيل الثورة السورية وتصدر واجهتها، بل إنهم شكلوا كتلة التطرف الأساسية فيها، التي حولتها إلى مآلاتها الحالية التي لاتسر سورياً حالماً بالتغيير وبناء وطن يحفظ الكرامة والحقوق والحريات.
&
&
وقد جمع الأداء المتطرف جميع «الخريجين» بغض النظر عن إنتمائهم «الفكري» و «السياسي»، وأضع المفردتين بين قابستين للتشكيك، فقد كان الجميع عقائديين إذا جاز التعبير والتفريغ. بل إن اليساريين من خريجي الأكاديمية الذين انحازوا للنظام كانوا متطرفين أيضاً في انحيازهم، فقد كانوا الأشد انتقاداً لتهاون النظام وتراخيه وعدم حزمه في مواجهة من أطلقوا عليهم مبكراً «الإرهابيين» في وقت كان النظام يفرق بين «المندسين» وبين المتظاهرين السلميين أصحاب المطالب المشروعة؛ إذ شكل بسام القاضي اليساري السابق الذي انحاز بشكلٍ متطرف للنظام، صورة معكوسة لياسين الحاج صالح اليساري السابق والمنحاز للثورة، والإثنان من «خريجي» الأكاديمية.&
&
ومثل هارفارد تماما هناك شبكة من العلاقات الوثيقة تربط خريجي هذه الأكاديمية، فبحسب رواية مدققة فإن أول ما قام به «أمير منطقة» في حركة إسلامية عسكرية عند «تحرير» أحد المدن السورية هو البحث عن زملاء صيدنايا والاجتماع بهم لتسليمهم «مفاصل» المدينة.&
&
وشكل خريجو صيدنايا الإسلاميين مع زملائهم خريجي «الأكاديميات المرموقة» في سوريا ودول الجوار العصب الأساسي للحراك العسكري الجهادي ونقطة الإرتكاز الأساسية للفوج الأول من «المهاجرين» الذين تدفقوا إلى سوريا.&
&
وإذ عمل خريجو صيدنايا المدنيون من الإتجاه الإسلامي في كنف زملائهم «الجهاديين» المتطرفين، كذلك فعل اليساريون، بل إن تحالفاً نشأ بين يساريي صيدنايا وإسلامييها، حتى أن خطابهم وسلوكهم «الثوري» بدا متشابها دون فوارق تذكر في المآلات النهائية. فقد دافع جورج صبرة، اليساري السابق ورئيس المجلس الوطني وخريج صيدنايا دفاع المستميت عن جبهة النصرة، حتى سخر منه سوريون على مواقع التواصل بتسميته «الشرعي» العام لجبهة النصرة، فرع القاعدة في سوريا التي أسسها ويقودها الجولاني الذي يعتقد أنه خريج الأكاديمية أيضاً.&
&
وقد عمم الصيدناويون تجربتهم «الناجحة» التي خاضوها أثناء الإستعصاء الشهير الذي قاموا به في السجن عام 2008 على كل المدن والقرى السورية التي «استعصوا» فيها، وكانت النتائج بمقدار كارثية استعصائهم في السجن الذي أسفر عن مجزرة نفذها النظام ضدهم، بينما كانوا يحلمون بإسقاط النظام من قلب سجن صيدنايا المعزول والمحاصر.&
&
ووفقاً لعلم النفس وعلم الإجتماع والفيزياء، فإن تطرف خريجي صيدنايا أمر طبيعيً وضمن سياق الوضع الطبيعي للنفس البشرية شديدة التعقيد. فبحسب كراغ هايني [استاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا] فإن السجناء المعزولين تنشأ لديهم اضطرابات في الهوية وفقدان الشعور بالاتجاه، وترتفع لديهم نسبة الإصابة بالاكتئاب والقلق، والصعوبة في التركيز، ويعاني نصفهم اضطرابات نفسية، تستمر حتى بعد خروجهم من السجن. كما أشارت دراسة صادرة عن جامعة كندية [New Brunswick] إلى أن إحدى الآثار التي يتركها السجن، تعزيز السلوكيات المعادية للمجتمع لدى السجناء. وأشارت دراسة أمريكية أخرى إلى عدم أهلية من يمضون فترات في السجن تتجاوز الستة أشهر! لتولي مواقع قيادية.&
&
هذه الدراسات تتحدث بالطبع عن السجون الغربية حيث شروط السجن لا يمكن مقارنتها بالسجون السورية ودول الجوار. ولنتجاهل التعذيب الوحشي الذي يتعرض له السجناء في بلادنا.&
&
إذاً؛ من الطبيعي أن تصل البلاد التي يقودها خريجو جامعة هارفارد إلى ماهي عليه ومن الطبيعي أن تصل الثورة السورية إلى ما وصلت إليه إذ يقودها سياسياً وعسكرياً وينظر لها خريجو أكاديمية صيدنايا، الذين تعرضوا لظروف غير إنسانية، بل وحشية في فترات سجنهم المديدة.
&
&