&في الغزالية ببغداد، حيث تقبع دارنا، الفيلا نصف المكتملة، كان الظلام والسكون سيدا الموقف في تلك الليلة بينما كنت انط كأرنب مذعور صعوداً ونزولاً بين مكتبي الإعلامي في احدى زوايا مطبخ امي وبين منصتي الاستطلاعية في اعلى سطح الدار.

&كنت اترك المطبخ بين الحين والآخر وأتوجه بسرعة الى سطح الدار أنظر مرةً الى جهة الكاظمية ومرةً الى جهة العامرية بحثاً عن أيةِ بادرة حركة وإن كانت ضئيلة تتناسب وحجم الحدث الذي يتشكل منذ صباح ذلك اليوم.

&لقد طلب المفتشون الدوليون التابعون للأمم المتحدة ان يدخلوا ويفتشوا غرف النوم في قصور صدام الرئاسية فانتفضت نخوة الريف والبادية معا في اعماق صدام حسين وصال القعقاع في مخّيلته رافضاً. لقد اقترب المفتشون الدوليون كثيراً من آخر نقطة كرامة في جبين صدام حسين.

كان سّيد البيت الابيض حينها ديمقراطياً، وهذا يعني أن عقاب صدام على رفضه دخول المفتشين سيكون اهون بكثير مما لو كان السّيد جمهورياً. فالديمقراطيون هم حمائم البيت الابيض بينما الصقور هم الجمهوريون بامتياز.

لم يكن يهمني في تلك الليلة نوع الطائر الذي يحكم البيت الابيض، كل همي كان أن يستمر صدام حسين في رفضه وان ينزل به العقاب، أياً كان ذلك العقاب، حتى لو كان عقاباً على يد حمامه وحتى لو كان الثمن تدمير بيتنا ومقتلنا جميعا بأول قنبلة امريكية تهبط على بغداد. المهم أن يحدث شيء وأن ُيلقى حجر وإن كان ضئيلاً في بركة الوطن العراقي الآسن الركود.

الاخبار تتقاذف من إذاعة صوت امريكا كأنها شرارات عاصفة مغناطيسية والعالم كله يقظاً مترقباً إلا بيتنا وبيوت العراقيين الآخرين.

&إذاعة الكويت تقول إن الطائرات الامريكية أقلعت باتجاه بغداد فأركض باتجاه السطح كي أتأكد بعيني فيقابلني والدي عند مدخل السلّم يسير بتثاقل نحو الحّمام. يصدمني والدي ببرودة جوابه حين أخبرته بسبب صعودي الى سطح الدار في تلك الساعة من الليل :

_ روح نام بابا.. ما راح يصير أي شي!!

الهدوء قاتل فعلاً من فوق سطح دارنا. لا شيء يوحي ابداً بصدق ما تنقله اذاعة صوت امريكا وإذاعة الكويت من تهديدات مرعبة.&

أتطلّع من جديد الى جهة الكاظمية، لاشيء سوى منائر الامام موسى ابن جعفر عليه السلام، بينما لا يبان من جهة العامرية غير مصابيح التحذير الحمراء المثبّته على ابراج الضغط العالي.&

أصبح الامر مملاً وعديم الجدوى، لكن ترقّب نزول عقابٍ من اي نوع بصدام حسين كان يستحق السهر والانتظار. الامر اذن يتطلّب ابريقاً آخراً من شاي الحصة التموينية السيئ المذاق وحزمة جديدة من سجائر المزبّن المميتة ومزيداً من الالتصاق برئتي الوحيدة التي اتنفس منها هواءً غير هواء صدام حسين : جهاز الراديو شبه المحطّم الذي أملكه.

الاستماع من الراديو الى الاذاعات الاجنبية المعادية للنظام في سنوات التسعينيات العجاف كان فناً قائماً بذاته وإدمانا محفوفاً بمخاطر قاتلة. خطورته في مثل ظرفي انا مثلا تكمن في ان دارنا تقع في حي الصحفيين المتخم بالأسماء الناطقة باسم النظام، اما الناحية الفنيه فتتلّخص في كيفية التغلب على التشويش الحكومي مع جهاز راديو قديم شبه محطّم بتدويره كل مرة باتجاه معاكس لاتجاه موجة التشويش وتقوية بثه من خلال توصيل هوائي الراديو بكل انواع المعادن الموصلّة والمتوفرة في مطبخ امي بما فيها اغطية القدور والملاعق.

قبل الفجر بقليل جاءت البشارة الغامضة من اذاعة البي بي سي! مراسلهم في بغداد يصرخ ان القصف الامريكي على بغداد قد بدأ. أركض انا بكل اتجاه دون ان اسمع اي شي أبداً لا من منصتي الاستكشافية فوق السطح ولا في حديقة الدار الامامية.

السكون يلّف كل شيء : بيتنا والغزالية والكاظمية والعامرية وبغداد والعراق. الوطن كله نائم يشخر إلا أنا ومراسل البي بي سي الذي يزعم ان القصف على بغداد قد بدأ.

كدت أصدق كلام والدي وأنام انا أيضا لولا الانفجار الهائل الذي هزّ الكون من حولي. وجدت نفسي فوق فراش والدي أصرخ: بدأ القصف.. بدأ القصف.&

وضع والدي كفه كله في فمي كي يخرسني وكفه الاخرى تمسك بمؤخرة راسي بعنف وأنا أرى شفاهه تبثّ المقولة نفسها :

_ روح نام بابا.. ماراح يصير اي شي!!&

توقف القصف بسرعة وذهبت للنوم أخيرا. لقد وافق صدام على دخول المفتشين الى غرف نومه الخاصة. مسحَ صدام اخر قطرة كرامةٍ على جبينهِ بستائر غرف نومه فقد جَبُنَ القعقاع في مخيلته وتحولت نخوة الريف والبادية في أعماقه الى كرسيّ حكمٍ بالٍ يقف على اقدامٍ مكسورة.&

وفي الصباح كان كل شيء على حاله كما قال والدي في الليلة الماضية : باب المعظم يموج بالناس غير المكترثين، الباعة يعرضون بضائع الحصار المعادة آلاف المرات، وأروقة الجامعة المستنصرية تكتظ بطلابٍ منهمكين بالحصول على شهادات جامعية غير معترفٍ بها دولياً.

&

&

[email protected]

&