لعل مقولة ( الإناء ينضح بما فيه ) لا تنطبق إنطباقا شديدا إلا على الحالة الراهنة في العراق من مختلف جوانبها السياسية و العسكرية و الأمنية.. و كذلك الثقافية!!

فالحقائق تقول بأن السلطة الحاكمة في العراق اليوم و التي تتهاوشها و تتناهشها مجاميع من القبائل و الأحزاب الطائفية لاعلاقة لها بالثقافة من قريب أو بعيد، فاللجوء للحصون الطائفية أو العشائرية بات هو المعيار الأوحد و المركزي في ثقافة العراقيين التي تهاوت منذ أن هيمن فكر حزب البعث الفاشي بنسخته الصدامية المتهالكة الرثة على الوضع الثقافي العام في البلاد منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي و التي شهدت المرحلة السابقة لتلك الهيمنة نهضة ثقافية و فنية و موسيقية شاملة أعطت إنطباعا عاما بأن العراق كان يسير في طريق التطور الطبيعي و النماء الحضاري قبل أن تحل كارثة الحروب و المصائب و كواليس المؤامرات الدولية التي جعلت من العراق أرضا يبابا من خلال تمجيد ثقافة العسكر و الحرب و الموت و تحويل دفة الفن و الإبداع العراقي صوب الدبابة و المدفع و الطائرة وهو ماحصل طيلة عقد الثمانينيات وحيث تورط العراق في أطول و أبشع نزاع عسكري إقليمي ممثلا في الحرب العراقية/ الإيرانية التي أبرزت فاشية المتحاربين و أطاحت بالضربة الفنية القاضية بجهود قوافل من المبدعين العراقيين الذين أضطرتهم ضغوط السلطة لإرتداء البزة العسكرية و التمجيد بقائد النصر الوهمي و التلذذ برائحة البارود و السكر على أصوات المدافع!!

و إضطرار أساطين الفن العراقي للخضوع لتلكم الحالة الأسطورية من الخراب المقدس من خلال ألحان الموسيقار الراحل ( طالب القره غولي ) الذي كان يستحق فعلا لقب ( بليغ حمدي ) العراق قبل أن تسحق إبداعاته الخالدة في الغناء العراقي جهنم قادسية صدام و أخواتها اللاحقات ( أم المعارك ) و ( الحواسم )! و مابينهما من المعارك الصغيرة!، العراق و منذ ظهوره على مسرح السياسة الدولية في أوائل عشرينيات القرن الماضي كان مسرحا حيا للإبداع الموسيقي و الفني و المسرحي و السينمائي إضافة لريادته الشعرية التي أنجبت فطاحل الأدب العربي المعاصر كالجواهري و الزهاوي و الرصافي و السياب و البياتي و نازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم العشرات من المبدعين، كما قدم فنا غنائيا خالدا ظل رمزا من رموز الفن العالمي و ظهرت أصوات غنائية خالدة كناظم الغزالي و سليمة مراد و زهور حسين و عفيفة إسكندر ووحيدة خليل و مائدة نزهت و أنوار عبد الوهاب و ياس خضر و سعدون جابر وغيرهم المئات من المبدعين.

و أنتج كما هائلا من الملحنين كطالب القره غولي و محمد عبد المحسن و محسن فرحان و محمد نوشي و محمد جواد أموري و ناظم نعيم وغيرهم المئات أيضا من فطاحل الموسيقى العربية في العراق هو اليوم يعاني من جدب و تصحر حقيقي في مختلف مجالات الثقافة التي عسكرها البعثيون و أبادها أهل الحكم بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003 و الذي أجهز هو و الحصار الدولي الذي ضرب العراق طيلة 12 عاما قبل الإحتلال على كل ماهو جميل في العراق بدءا من القيم و الأخلاق و ليس إنتهاءا بالثقافة التي لا محل لها من الأعراب في زمن القتل و الحروب الطائفية و ملاحقة الإرهابيين، فالثقافة و أهلها لايبدعون إلا في أجواء سلمية حضارية مترفة و سعيدة، و العراق بعيد كل البعد عن تلكم الصفات ( الخرافية ).

و لعل الأدهى و الأمر هو عدم إهتمام الحكومات العراقية المختلفة منذ الإحتلال بالملف الثقافي العراقي و التي ينظرون إليها على كونها مجرد ترف و بطر و لا يريدونها إلا للتطبيل و التزمير أسوة بما فعله النظام البعثي النافق.

حكومة نوري المالكي كانت بائسة جدا في معاييرها الثقافية الرثة و كانت حكومة ميليشاوية تنظر للثقافة بإزدراء بل أنها مشابهة في بعض التفاصيل لحكومة الرفاق ( الخمير الحمر ) في كمبوديا الذين كانوا ينظرون للمثقف و لمن يرتدي النظارة نظرة الإنسان الناقص لذلك كانوا يأمرون بإعدام المثقفين في حقول الموت الشهيرة!! أما في العراق فقد كانت كواتم صوت الميليشيات تتحكم بعقول و رؤوس المثقفين و المبدعين الذين هاجر جلهم ليعانوا العزلة و أمراض الغربة!!، أما الحكومة الجديدة التي جاءت برغبة غربية محضة فيبدو أيضا أنها ليست في وارد الإهتمام بالحقل الثقافي بدليل أنها إستوزرت شخصا محترما من الوفد الكردي المفاوض لتشكيل الحكومة وسلمته حقيبة وزارة الثقافة دون علمه أو حتى رغبته رغم كونه من مثقفي الأخوة الأكراد الذين نحترمهم و نجلهم و نقدر ثقافتهم القومية!.

وفي ظني و تقديري و لربما تقدير الجميع بأن وزارة الثقافة هي وزارة ستراتيجية و أهم بكثير من وزارتي الدفاع و الداخلية التي يتطاحن حولها القوم اليوم! ومع ذلك فقد تم تهميشها بما يعني بأن ( دار لقمان ) على حالها!! ولا جديد تحت الشمس رغم الرعاية البريطانية للإنقلاب السياسي في العراق، فلاصوت يعلو على صوت المعارك الدائمة في العراق، و تعريب أو تكريد الثقافة العراقية ليس بالأمر المهم في الحكومة الجديدة، لأن الثقافة هي آخر إهتمامات أهل الميليشيات و عصابات القتل و الإختطاف.

فهل ينجح الوزير الكردي المحترم في شحن الروح الثقافية في العراق و إيقاد شعلة الأمل؟ أم أن شعار صدام حسين مثل بطاقته التموينية سيظل هو الأوفر حظا في التطبيق؟ ولمن لايتذكر فإن شعار نظام البعث السابق البائد كان ( للقلم و البندقية فوهة واحدة )!! ولا أظن أن الخلف قد إختلف عن السلف في النظرية و التطبيق!!.&

&

[email protected]

&

&