لعل التجربة العراقية في تطبيق الديموقراطية، تعد النموذج الأكثر فجاجة، للخلل في تطبيقها في سائر منطقة الشرق الأوسط، بجانب ما حدث من مثيل لذلك في مصر، وجزئياً في تونس. حيث يتم توظيف لآليات الديموقراطية، من قبل الجماعات والتوجهات الأشد عداء للحرية والديموقراطية ذاتها. تستخدمها لكي تفرض هيمنتها، وأيديولوجيتها المعادية للحرية، وللقيم الديموقراطية التي يعرفها العالم أجمع.
كل من الموالاة والمعارضة الديموقراطية السليمة، ينبغي أن تقوم على أساس المشاركة في الحكم، والمساعدة على إدارة البلاد. هنا يكون دور المعارضة لا يقل في الأهمية عن دور الموالاة، في نجاح عملية الحكم والإدارة، من خلال التنبيه إلى ما تراه فشلاً أو حيوداً عن الهدف المشترك. وتقديم تصورات بما تراه الأصوب. ومساندة ما تراه يحقق الصالح العام، والأهداف القومية المتفق عليها. فبدون وجود أهداف وطنية يتفق عليها جميع أبناء الوطن، من العبث الحديث عن ديموقراطية ومعارضة وما شابه. وما لم يكن القائمون على التنفيذ والمعارضون، متجهين لتحقيق أهداف عامة واحدة، بحيث ينحصر الخلاف بين الجانبين، في جدوى الوسائل المتبعة في تحقيقها، لا تنتج الموالاة والمعارضة عبر تفعيل آليات& الديموقراطية، غير فوضى وعشوائية، أشبه بما يمثله لدينا سوق عكاظ، الذي يغني كل فيه على ليلاه، دون أن يكون ثمة خط عام نسير فيه، ويتركز خلافنا على ترشيده وتعديله وتطويره.
هنا يتكاثر من يقترحون العودة إلى النهج الاستبدادي، للحد من عشوائية الممارسات الديموقراطية الشوهاء. سواء ممارسات أغلبية ديماجوجية متخلفة، أو ممارسات أقلية عنيدة، منغلقة الفكر طائفية التوجه. وقبل أن نلوم من ينحو هذا النحو، باتجاه الردة إلى ما لم نكد نتخلص منه بالفعل، وهو الشمولية والأبوية في الحكم وإدارة شئون الحياة، علينا أن نجد حلاً لظاهرة إساءة أو الفشل في استخدام الديموقراطية، والتي تتسم بها جميع المحاولات أو التجارب الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط.
ففي العراق الديموقراطي تحت إشراف أمريكي، تم استخدام الديموقراطية لتنازع واقتسام كعكة الوطن. حتى وصلنا لما نحن عليه الآن، من اكتساح واستباحة الإرهاب المتأسلم لكيان العراق وتمزيقه إرباً. ليس الحال في لبنان أفضل من هذا، رغم عراقة الممارسة الديموقراطيه فيه. هذا بالطبع غير مهزلة الديموقراطية في فلسطين. فلم تصبر حماس على توظيف الديموقراطية بذات طريقة حزب الله، وإنما اختصرت الطريق بانقلابها على السلطة، والقبض على أعناق الشعب الفلسطيني، تحت تهديد الخناجر والسيوف، لتجلب له دورات تبدو بلا نهاية من الدمار، عبر اشتباكاتها الحمقاء مع إسرائيل.
يستسهل الكثيرون القفز من تلك الظواهر، إلى استنتاج أن الديموقراطية لا تصلح لشعوب المنطقة، وأن الاستبداد هو الوسيلة المثلى، أو حتى الوحيدة، لقيادة مثل هذه الشعوب، وهذا بالتأكيد غير صحيح بصورة مطلقه، وإن كان من وجهة نظرنا ذي صحة نسبية مرحلية.
لا نعتقد بمقولة أن "أخطاء الديموقراطية يصححها المزيد من الديموقراطية"، فأخطاء الديموقراطية تعني أن هناك خللا في التطبيق، يرجع غالباً إلى البيئة التي يتم فيها تطبيق آليات تحتاج لشروط، لكي تأتي بالنتائج المرجوة. وغياب هذه الشروط، سيظل يفعل فعله السلبي، مهما طالت الممارسة الديموقراطية من حيث الزمن.
إن شأن شعوبنا مع الديموقراطية، هو ذات شأنها مع كثير من مظاهر الحضارة، التي استوردتها من الخارج، بغض النظر عن مدى تواؤمها مع واقعنا من عدمه. ولنأخذ نموذج توظيف القنوات التليفزيونية الفضائية، المفترض أن يساعد على نشر الثقافة والحداثة والوعي بين الجماهير التي تغلب عليها الأمية. نشهد استخدمنا له للشحن العاطفي بالعداء والكراهية لكل ما هو حديث وإنساني، وللترويج لنظرية مؤامرة، تغيب شعوبنا عن حقائق حياته وعالمه، وتعمي عيونه عن مواطن الخلل، التي يتحتم عليه معالجتها. لعلنا نستطيع الزعم بأن ثمار توظيفنا للبث الفضائي، كان تجريف القدر اليسير من الوعي والتحضر والإنسانية، ذلك الذي تراكم لدى الجماهير على مدى عشرات القرون. لتأتي مثلاً تلك القناة الشهيرة، وتنجح نجاحاً باهراً في تجريف وتدمير قشرة الحضارة، لدى شعوب المنطقة. لنرى شيوع التعطش للذبح وسفك الدماء، ولنرى في ميادين عواصمنا تظاهرات حاشدة تطالب بالحروب والانتقام وسفك الدماء، على العكس تماماً مما تشهده عواصم الغرب، من تظاهرات مناهضة للعنف والحرب، ومطالبة بسقوط زعمائها الذين يلجأون للعنف.
ومن الطريف أن نشاهد على شاشة تلك القناة التليفزيونية المروجة للعنف والكراهية، برنامجاً يقوم على الحوار بين طرفين، والذي يدل اسمه بالفعل على "معاكسته" لآداب وشروط الحوار العقلاني البناء. الحوار بين الأفرقاء هو العمود الفقري للحرية والديموقراطية، لكن صديقنا اللدود مقدم البرنامج، مصمم أن يضرب المثل في إساءة استخدام وتوظيف آلية الحوار، فيكرس حذقه وألمعيته، لتحويل الحوار إلى مقارعة، أو قذف حجارة متبادل بين الضيفين، المفترض أنهما جاءا ليتحاورا أمام الجماهير، أو على الأقل يعرض كل منهما وجهة نظره، ويدفع ما يوجه إليه من نقد ويفنده، ليكون للجماهير بعد ذلك الحكم لصالح هذا الطرف أو ذاك، أو الخروج بنتيجة متوسطة بينهما. هكذا وتحت شعار "الرأي والرأي الآخر"، تجري مهزلة وإساءة توظيف كل القيم السامية.
المشكلة إذن ليست في الديموقراطية ذاتها، ولا في صلاحيتها من عدمه لشعوب بعينها. إنما في أن الديموقراطية عبارة عن آليات وإجراءات ونظم تنفيذية، ابتكرتها شعوب تعتنق الليبرالية منهجاً ومنظوراً للحياة. شعوب لا تعتبر التنوع وصمة أو مصدر ضعف تسعى لقمعه وتهميشه أو حتى استئصاله، كما فعل صدام في الأكراد، والبشير في جنوب السودان ودارفور، وكما يسعى السُنَّة والشيعة في جميع مجتمعات المنطقة، لاستئصال كل منهما للآخر. هي ثقافة مهيمنة، تنزع لقولبة وتوحيد الناس قسراً، وفق نموذج مصطنع، تتصور أو تدعي تعسفياً، رفعته وسموه عن سائر ما عداه.
الشعوب الليبرالية صاحبة آليات الديموقراطية، تعد الاختلاف في الأراء والرؤى والمواقف مصدر ثراء. وليس خيانة وعمالة وكفراً، أو خروجاً على ثوابت الأمة, بل وليس لدى الشعوب الليبرلية ثوابت بالأساس، اللهم إلا التوجه نحو تحقيق مصلحة سائر الأطراف العملية على أرض والواقع. ليس لدى هذه الشعوب أيضاً حقيقة واحدة مطلقة، ونص واحد بتفسير واحد شامل جامع لكل كبيرة وصغيرة في الحياة، وما عداه ضلال وفساد وانحلال. كما لا تحاكم الشعوب الليبرالية أفرادها على تميزهم، وعلى خروجهم عن القضبان الأزلية، التي سار عليها الآباء والأجداد لمئات أو آلاف السنين. بل تشجع هؤلاء على الابتكار والإبداع، علهم يجدون لمجتمعاتهم طرقاً جديدة، أكثر صلاحية، وأكثر مقدرة على الوصول بالمجتمع إلى غد أفضل. لتحقيق كل ما سبق من توجهات ليبرالية، ولتنظيم الأداء في مثل تلك المجتمعات، كانت الديموقراطية وآلياتها، تلك التي استعرناها نحن، أو فرضت علينا كما حدث بالعراق، لنعمل فيها التشويه والتوظيف المضاد لكل ما وضعت من أجله.
نتساءل أخيراً إن كانت الليبرالية هي الشرط الأولي اللازم لصلاحية التطبيق الديموقراطي، أم أن التطبيق الديموقراطي هو بداية الطريق لاستزراع الليبرالية، حتى لو جاء في البداية مشوهاً، أو أتى بنتائج معاكسة تماماً لما نتوقع. ليكون علينا معالجة النتائج السلبية، بالقليل من عقار التحكم والضبط الشمولي الطابع؟
لا أعتقد أنه من السهل العثور على إجابة نموذجية لهذا السؤال، فهو ليس من الأسئلة التي تفيد فيها الاجتهادات النظرية. فالإجابة لابد وأن تأتي مما يتحقق على أرض الواقع، فالواقع خلاق ومبدع، وحالة الفوضى والسيولة التي تمر بها المنطقة الآن، والتي نأمل أن تتوفر فيها شروط "الفوضى الخلاقة"، وليس صفات "الفوضى العدمية التخريبة"، ربما كانت هي المستنقعات الموحلة، التي يتحتم علينا الخوض فيها، عبوراً إلى مروج الإنسانية والحضارة المعاصرة.
[email protected]&
&