اللمس ممنوع، تاريخنا للعرض و الحفظ فقط. لا نسمح سوى بالمشاهدة، ثم لا نرضى إلا أن ترى ما نريد نحن أن تراه. تاريخنا هو الأمثل و الأنقى، وجه الخير الذي تجلى للإنسانية لبرهةٍ من الزمن ثم غاب و لم يعد بمقدورنا سوى اللحاق بسرابه. ليس بالضرورة أن ترى تجليه، المهم ما نراه نحن، و إذا لم ترَ ما نراه فالعلةُ في نظرك لا فينا و لا في تاريخنا، أو بالأحرى العلة في إيمانك.
&
هذا لسان حالنا عندما يتعلق الأمر بالتاريخ الإسلامي، خصوصاً الفترة المبكرة التي تُعرف إصطلاحاً بصدر الإسلام، أي فترة النبي و الخلفاء الأربعة. معظم المسلمين يرون أن تاريخ البشرية قبل الإسلام هو عبارة عن تحضير إلهي برسالات سماوية سابقة، صعوداً إلى اللحظة النبوية الإسلامية التي تجلت كذروة أخلاقية و عملية عظمى في تاريخ البشرية، بينما تمثل الأزمنة اللاحقة هبوطاً مستمراً من الذروة إلى السفح في تدهور مستمر لتحقق المُثُل الإلهية على الأرض، لذا لابد من إستعادة تلك اللحظة الإسلامية الأولى و إعادة انتاجها بشكل أو بآخر إذا شئنا تحقيق صلاح الإنسانية.
&
التصور الشعبي السائد لدى جماهير المسلمين عن فترة الدولة النبوية في المدينة و التي دامت حوالي عشر سنوات، و بعدها دولة "الخلافة الراشدة"، هو تصور طوبائي يرى أن مجتمع المؤمنين الأول كان مجتمعاً مثالياً متحاباً هو نموذج التعالي الأخلاقي في خدمة أفكار و مُثُل سامية، حيث وَجَدَت العدالة الربانية تجسدها "الصحيح" و النقي فتحققت سعادة البشر القصوى و رضا الله في تناغم تام. هذا التصور المثالي للتاريخ الإسلامي المبكر مُرَوَّج بكثافة و مترسخ لدى مختلف فئات و شرائح المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، و كذلك بين الجاليات الإسلامية في العالم. و هو ينتج تاريخاً إسلامياً متخيلاً لا يرتبط بصلات وثيقة مع بديهيات التاريخ الإنساني و الواقع الاجتماعي البشري في كل زمان و مكان سواء كان المجتمع إسلامياً أو لم يكن، فالمجتمعات و الدول المثالية لم و لن تتحقق أبداً على أرض الواقع. التاريخ الإسلامي الحقيقي بعيد جداً عن اليوتوبيا التي نتخيلها، لأنه ببساطة دار في فلك البشر الذين لهم نقاط ضعفهم و قوتهم و أطماعهم مثل كل الناس في كل العصور، هذا فضلاً عن الشواهد التاريخية العديدة التي لا تنسجم مع تلك الرؤية المثالية.
&
هذا التصور للمجتمع الإسلامي المبكر هو أحد المصادر الرئيسية للتطرف الاسلامي المعاصر و العنف الديني بمختلف أشكاله. حلم كل مسلم متدين هو أن "يَرجع" العالم أخيراً إلى تلك البراءة الإسلامية المفترضة. نحن باختصار تخيلنا واقعاً افتراضياً بمزايا مثالية، نرغبُ بإعادة إنتاجه الآن و هو لم يحصل أصلاً. الفرق في هذا السياق بين الطوبائية الإسلامية و الطوبائية بالمعنى الفلسفي، أن الثانية هي تصورات لمجتمعات مثالية وضعها بعض الفلاسفة من باب نقد مجتمعاتهم أو لتوضيح رؤاهم لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، أما اليوتوبيا الإسلامية فأصحابها يعتقدون أنها حصلت فعلاً في التاريخ على الأرض و أنه يمكن إعادة إنتاجها، لا بل أن هنالك عهداً إلهياً بتحققها من جديد و تغلبها على العالم أجمع.
&
هنا تكمن المشكلة، اليوتوبيا تسلك أحد مسارين إذا أريد لها أن تُطبَق، إما الانعزال و محاولة تكوين مجتمع مثالي مصغر تحكمه قوانين صارمة، و هو ما قامت به بعض الجماعات الدينية على مر التاريخ، أو التمدد و محاولة نشر اليوتوبيا على نطاق واسع (و على نطاق عالمي بالنسبة للإسلام). في هذه الحالة الأخيرة يحصل سفك الدماء لا محالة، لأن كل محاولة لفرض نظام مثالي على مجتمعات بأكملها ستصطدم بالتأكيد بمعارضين أو مختلفين عن القيم المراد تعميمها. بالنسبة لأصحاب اليوتوبيا، هؤلاء هم النغمة النشاز التي ينبغي تصفيتها. سفك الدماء هنا قد لا يكون هدفاً في حد ذاته، و لكنه نتاج محاولة إزاحة النشاز أو تطهير أرض الله من أعدائه.
&
هذه اليوتوبيا الإسلامية واسعة الانتشار و المتجذرة في النفوس و المتناقلة عبر الأجيال، هي من المفاتيح المهمة لفهم جاذبية التنظيمات الإسلامية المتطرفة بالنسبة للمنتمين إليها و المتعاطفين معها من المسلمين سواء في بلدانهم الأم أو في المهاجر. دعاوى الجماعات المتطرفة لإقامة الخلافة الإسلامية و "العودة" إلى أحكام الشريعة تنسجم تماماً مع إيمان السواد الأعظم من المسلمين بنقاء الاسلام المبكر و التوق إلى استعادة ذلك النقاء. و أيضاً تتوافق مع الاعتقاد الرائج بين المسلمين بحتمية انتصار "العدالة الاسلامية" و لو في "آخر الزمان" الذي يعتقد مسلمون معاصرون كثر أنه زماننا الحالي بالذات.
&
من هنا فإن المواجهة الفكرية الفعالة للتطرف الإسلامي لا بد أن تتضمن تفكيك المنظومة التي تنتج ذلك التصور الطوبائي عن مجتمع إسلامي مثالي، مع تقديم و ترويج تصور أكثر واقعيةً و تدقيقاً و نقداً لتاريخنا الإسلامي المبكر.
&
________
&
* طوبيا Utopia: الكلمة يونانية الأصل، و تدل على ما لا يوجد في أي مكان. و يراد بها كل فكرة أو نظرية لا تتصل بالواقع أو لا يمكن تحقيقها... و الطوبائي ما لا يعبر عن الواقع و يكون أشبه بالخيال. (مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي)