بين لينين وعبد الناصر والخميني؛ ظل العراق اسيراً لأيديولوجيات معسكر الشيوعية والامة العربية وولاية الفقيه، ضيع تاريخه الحديث تحت هذه المقولات، وبقي محكوما بشروطها، ولا تزال حتى اللحظة تلعب به وفيه، رغم ان كثيرا منها اندثر وتلاشى.

في هذا البلد المحكوم بشروط طائفية ودينية وجغرافية وتاريخية معقدة ومختلفة عن الكثير من الدول الاقليمية، كانت هذه الايديولوجيات بمثابة استجابة لنمط من تلك التعقيدات، القومية استجابت لعقدة الاقلية السنية في العراق التي ترى في القومية تكثيرا لها وتبريرا لانفرادها بالحكم، وولاية الفقيه بمثابة تحد لعقدة اضطهاد شيعية ضاربة في التاريخ. واستجابت الحالة العراقية التي كرست السلطة في عهدها الملكي بيد نخبة صغيرة من الناس، للشيوعية باعتبارها حالة شعبية يفترض انها تتجاوز التصنيفات والمقولات الطبقية.

هذه الايام مرت ذكرى وفاة عبد الناصر، لم يهتم بها العراقيون، كتاباً وصحفيين، بينما شدت انتباه اخرين، لم اسأل لماذا، لأن الجواب يعرفه الكثير منّا منذ زمن؛ هو مزحة ثقيلة ساهمت بإيصال العراق الى مراحل سيئة من التدمير والصراع والشقاق الداخلي، ودفع به ليتحول الى وطن محكوم بطموحات خارجية رغم انه كان يقدم نفسه على انه عدو للطموحات الخارجية... الرجل دعم عملية اسقاط المملكة، لينفرد بزعامة العالم العربي، وعندما اكتشف ان عبد الكريم قاسم لا يخدم رغبته ببث سيطرته على العراق، واجهه ودعم خصومه بالسلاح والمال والاعلام، الى أن اطاح به، ولولا نكسته في حزيران 67 لاستمر بذات اللعبة، هو تراجع واصبح تحت رحمة صبيان القومية كالقذافي في ليبيا وحزب البعث في القطرين.
&
كعراقي، لا اجد في عبد الناصر سوى زعيم حاول تمرير رؤيته على بلدي الذي لا يشبه مصر، وتصدير ثورته القومية اليّ، ليشوه حاضري "السابق"، الذي كان يعمل بكل جهد من اجل ان يتخلص من التشويه العثماني.

مفهوم ان المملكة ونوري السعيد، رغم اهميته، لم يلتفت للسياسة الداخلية كما اهتم بالسياسة الخارجية، وانه اعطى خصومه فرصة الانقضاض عليه، الا أن ذلك كله كان يمكن اصلاحه، ولم يكن بحاجة الى انقلاب يعتمد الناصرية او الشيوعية. ولهذا فان ناصر هو أول من لعب دورا سيئا في العراق، ونجح حلفاءه وانصاره و"عملاءه" كما يحلو للقومية ان تنعت بها المتعاملين مع الاعداء او الخارج، بإدخال البلاد في نفق التداعيات المستمرة.

كعراقي، لا امتلك اليوم، سوى النظر الى هذه الادوار على انها اطماع لعبت على الصراعات الداخلية، باسم مواجهة الاطماع، واذا بالبلاد التي اخرجت من اطماع المستعمر، تقع ضحية اطماع طموحات فرد اراد الزعامة وصدق الوهم، فاندفع اليه بقوة.

ولو كنت فلسطينيا لما ترددت بالسؤال، لماذا يا عبد الناصر اخذتنا بعيدا في الصراع، واذا بنا نفاوض اليوم على ما رفضته انت بالأمس، لكنك عجزت عن الدفاع عنه؟!
ولو كنت سورياً، لما قلت غير انك لم تزد من حالي سوى بلاد محطمة على ابواب البعث.
ولو كنت سودانياً، لعرفت ان النميري والبشير ما هما الا انعكاس لألاعيب القومية.
اما لو كنت يمنياً، فسأذكر ناصر بأنك ايها القائد، اسقطت الامام، وهو كان سيسقط لاحقاً، لكنك عجلت بالقطاف فكانت مرة، وبقي حال اليمن مراً.
ولو كنت لبنانيا، لعرفت ان الدور السعودي والايراني والتركي والقطري الراهن، جاءت على انقاض دور مصر الناصرية.
ربما يشكر الكويتي ناصرَ على موقفه بعد تهديدات الكويت، لكن هذا التهديد لم يقف، فجاءه اخر برغبة الغزو ويعرض المنطقة لكارثة انهيارات صدام حسين.
وربما يفرح التونسي ان بورقيبة لم يكن صيدا، بل كان اقوى من ان يخضع بلده لأكذوبة، فاستخدمها بدهاء لكنه قدم نموذجا فريدا بين بلدان العالم العربي، بلغت فرادته انه حقق اول انتفاضة سلمية، وان خليفته عندما ادرك انه في بلد يختلف، رحل بدون اراقة الكثير من الدماء.

هذه الامة تتذكر الصوت العالي، لكنها لا تتذكر الهزائم، لا تقيس النتائج... بالتأكيد ان عبد الناصر لا يشبه الطغاة الذين ظهروا في سبعينيات القرن الماضي ودمروا بلدانهم، لكنه يمثل اللحظة التي آذنت بولادتهم. وسط كل هذا، هناك عشاق لناصر، يعتقدون زمنه الاجمل، ويرون مقولاته ملهمة، هم جميلون وصادقون، لكنهم بقايا من شرب ذاك العسل المسموم.

ربما كان ناصر نبيلاً وصادقا.. لكن النوايا الطيبة قد تؤدي الى اوضاع كارثية، ان لم تنعكس الى افعال طيبة.
&