يؤمن العلم بالتفكير الحر والتساؤل في كل الاتجاهات، ويخضع كل دعوى للبحث والتمحيص، وهو يتجرد للحقائق وحدها وليس معنياً بإثبات أحكام مسبقة، ولا يعترف بخطوط حمراء يمنع على العقل الاقتراب منها، والمسلمات بدورها ينبغي أن تراجع باستمرار بحثاً عن نتائج أفضل، في المقابل تفرض الأيديولوجيا قيوداً على العقل بأحكامها الشمولية التي تقدم تفسيراً جاهزاً لكل جوانب الحياة، وهي تقدم هذه الأحكام على هيئة قالب جامد من المعتقدات لا يحتمل المناقشة والنقد، وتسعى لتطويع أي حقيقة علمية في الاتجاه الذي يخدم أحكامها المسبقة، مما يعني أن الأيديولوجيا تضع النتائج التي يفترض أن يصل البحث العلمي مسبقاً ثم تلوي أعناق الحقائق وتطوعها حتى لا تخرج نتائج البحث العلمي عن المسار المفروض عليها..
للوهلة الأولى يظن المتدينون أن نقد الأيديولوجيا هو نقد للدين، وبصراحة فلو كان الدين كذلك لكان جديراً بالنقد لأن العقل العلمي لا يمكن أن يعمل إلا في أجواء الحرية والانطلاق الكامل في البحث والتساؤل، لكن نظرةً متعمقةً إلى طبيعة الرسالة القرآنية يثبت أن مفهوم الدين لا يتفق مع مفهوم الأيديولوجيا الجامدة إذ إن القرآن لا يقدم مجموعةً من المعتقدات الجاهزة التي يحظر على المرء مناقشتها، بل إنه يفتح الباب أمام المحاورة العقلية ثم يقدم استنتاجات علميةً مدعمةً بالبرهان: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، "ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند الله"، وما دام بناء الحقائق القرآنية مستنداً على البرهان فإن هذه سمة العلم لا الأيديولوجيا، ولن يكون المؤمن بعد ذلك خائفاً من مناقشة أي مسألة بالبرهان ما دام القرآن قد رضي بالاحتكام إليه حتى في القضايا الوجودية الكبرى: "قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون" أي أن مشكلة قولهم باتخاذ الله ولداً أنه لم يكن قولاً علمياً لذلك فالقرآن يطالبهم بالإتيان بالدليل الذي يثبت قولهم إن كان عندهم!!
هناك مثل تقليدي يبرز مشكلة إقحام الأيديولوجيا في العلم وهو الموقف من نظرية التطور، ففريق كبير من المتدينين يسارع إلى رفض هذه النظرية لما يظهر من تعارض ظاهري بينها وبين نصوص خلق آدم في القرآن، والمشكلة ليست في رفض النظرية أو تأييدها فهي في نهاية المطاف مادة للمناقشة وليست صنماً يحرم المساس به، لكن المشكلة هي في منطلقات رفضها حين نسارع إلى ردها لاعتبارات أيديولوجية وليست علميةً مما يعني أنه صار للأيديولوجيا سلطان قاهر على البحث العلمي.
السعي إلى إبطال نظرية التطور عبر استحضار النصوص الدينية يوقع أصحابه في خطأ منهجي فادح وهو أنهم يحرفون القرآن عن وجهته، هناك حقيقة بسيطة تقول إن القرآن لم يأت ليقدم حقائق علميةً تفصيليةً فهو كتاب هدىً ورحمة وشفاء لما في الصدور أي أنه ذو طبيعة روحية، وحين يتطرق إلى القضايا العلمية فهو يعالجها من زاوية مختلفة عن الزاوية التي يعالجها منها العلم.. العلم يسعى ليجيب على سؤال: كيف؟ بينما القرآن يقدم إجابةً على سؤال: لماذا؟ العلم يفصل لنا كيف تتكون السحب وتهب الرياح والقرآن يذكر لنا أن تكون السحب وإرسال الرياح هو آية من آيات رحمة الله.. العلم يرصد التسلسل التاريخي للأحداث الذي قاد إلى سقوط الامبراطوريات، بينما القرآن يقدم الخلاصة الروحية وهي أن تلك الامبراطوريات زالت بسبب ظلمها دون أن يكون معنياً بالتفاصيل الظرفية الدقيقة لتلك الأحداث.
بنفس المنهج فإن القرآن حين يتطرق إلى خلق آدم فإنه لا يتناول المسألة من زاوية التفاصيل العلمية فهو يتحدث عن تكريم آدم والنفخ فيه من روحه وسجود الملائكة له وتسخير ما في السماوات وما في الأرض له وتفضيله على كثير ممن خلق تفضيلاً.. التكريم والتسخير وسجود الملائكة هي قضايا روحية مختلفة عن اهتمام العلم..
نظرية التطور تتناول ميداناً مختلفاً فهي تحاول فهم كيف نشأت الكائنات الحية عبر افتراض وجود سلم للتطور يقف على رأسه الإنسان.. كل ما يخبرنا به القرآن هو أن آدم في مرحلة تاريخية ما تم اصطفاؤه والنفخ فيه من روح الله وأمرت الملائكة بالسجود له كما أنه يخبرنا أنه بدأ خلق آدم من طين، أما ما حدث بين الطين وسجود الملائكة فيقف بينهما حرف العطف "ثم" الذي لا نستطيع تقدير مدته الزمنية فقد تحتمل "ثم" في الميزان الإلهي ملايين السنين وما يدرينا!! لذلك فإن النص القرآني يقف محايداً من العلم التجريبي، فللعلم أن ينطلق إلى آخر مدىً وأن يضع ما يرتئيه من فرضيات ونظريات دون طابو من رجال الدين وفي النهاية مهما وصل العلم إليه من حقائق فإن هذه الحقائق ستظل متعلقةً ب "كيف" ولن يكون فيها ما ينقض "لماذا" التي هي اختصاص القرآن..
إن حقيقة أن الله على كل شيء قدير لن تتأثر بنتيجة البحث العلمي إن خلصت إلى نظرية التطور أو نظرية أخرى، ففي جميع الأحوال فإن التفسير العلمي يقدم الكيفية لقدرة الله تعالى ولا يناقش المبدأ الإيماني..
هناك بعض المحدثين يرون وجود إشارات قرآنية قوية تدعم نظرية التطور مثل حديث الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" وما قد يعنيه ذلك من وجود إنسان سابق لآدم رأته الملائكة يسفك الدماء فخافت أن يظل آدم على سيرته، وكذلك حديث القرآن عن خلق الأطوار: "وقد خلقكم أطواراً"، لكني رغم هذه الإشارات لست متحمساً لمحاولة إثبات أي دعوىً علمية أو عكسها من نصوص القرآن لأن القرآن ذاته يأمرنا بالسير في الأرض لا بالبحث فيه لفهم الحقائق العلمية: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"، "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"
الآيات القرآنية التي تذكر تفاصيل علميةً غالباً ما تأتي بدلالات ظنية تحتمل تعدد الأفهام، وهو ما يجعل من تبني نظرية علمية محددة لإثبات الإيمان مغامرةً غير مأمونة العواقب لأن العلم لا يعرف التوقف بل هو دائم الحذف والإضافة، لذلك فإن البحث العلمي متروك للسير في الأرض والتنقيب في الآثار.
قال لي أحدهم فرحاً: لكن العلماء أنفسهم قد أبطلوا نظرية التطور، وهاك تقرير من الجزيرة يثبت فشل نظرية دارون! قلت له دون أن أشاهد التقرير: لا يعنيني سقوط النظرية أو علوها فهي في النهاية نظرية، ولو كنت مهتماً ببقائها أكثر من اهتمامي بالحقيقة فهذا يعني أن النظرية العلمية تحولت إلى أيديولوجيا جديدة لا تقل سوءً عن الأيديولوجيا التقليدية التي نرفضها، لكن ما لي أراك فرحاً تتلقف أي خبر فيه شبهة تفنيد نظرية علمية، هل هذا موقف علمي أم موقف أيديولوجي!! يا سيدي فلتسقط النظرية ما المشكلة!، لكن من له الحق في محاكمتها هم أهل الاختصاص وليس أنا أو أنت.. حسناً فلنبحث في الأرض ولنجمع بقايا الهياكل العظيمة ولننشئ مختبرات متخصصةً لتحليل النتائج ثم لنعلن على أسماع العالم فشل النظرية ولنقدم تفسيراً علمياً جديداً..
لا أناقش نظرية التطور بقدر ما أناقش منهجاً عاماً، يتمثل في أن طريق البحث العلمي المستندة إلى التجربة والبرهان هي الطريقة الآمنة للتوصل إلى الحقائق العلمية وكل ما عدا ذلك فهو خرص ورجم بالغيب، ولا يمكن لطريق العلم أن تقود صاحبها إلى الضلال، فالضلال كل الضلال هو في مجانبة المنهج العلمي واتباع الظن والأوهام.

كاتب فلسطيني من غزة
[email protected]