-1-

&سنجار واحدة من أكثر المدن التي تعرضت للحصار والحروب عبر تاريخها منذ أكثر من عشرين قرنا وربما هي المدينة الأكثر عمقا في دهاليز الزمان الممتد عبر ذاكرة الطبيعة والإنسان، حيث أدرك الاثاري الأمريكي سيتون لوئيد في سنة 1936 م وهو يتجول بين قراجات ( تلول ) سنجار ووديانها تلك الخطوات الأولى للإنسان هنا في هذه المدينة قبل أكثر من سبعين ألف سنة، حينما اكتشف لوئيد ومجموعته تلك اللقى والأدوات الحجرية التي أشرت انتقال هذا الإنسان في تلك الفترة من مرحلة البحث عن الغذاء إلى صناعة الغذاء.&

&لقد كانت حبات القمح المتحجرة وتلك الأدوات الحجرية المنحوتة بالحجر والأظافر تومئ الى أوان وأدوات لا تستعمل إلا في الزراعة والطبخ والخبز الحار الذي أصبح عبر الأجيال هوية هذه المدينة، فإذا ما عدنا إلى العصور التاريخية القديمة واستكشفنا حياة إنساننا في هذه المنطقة، حيث كان أقرانه في أواسط أوربا وغربها يبحثون عن الغذاء في مرحلة الصيد، كان هو في ( سنجار وزوي جه مي، قرب كهف شانه ده ر في منطقة بارزان) وبقية أنحاء كوردستان، قد بدأ في صناعة الغذاء بنفسه، حينما تجمع في قرى (تبه 1) و (تبه 2) لينشئ أقدم مستوطناته البشرية المتحضرة قبل أكثر من سبعين ألف عام، فالتنقيبات الاثارية التي أجراها الاثاري (سيتون لوئيد Seton Eloyed) في منطقة سنجار والتي تناولت المرتفعات الشرقية والجنوبية من أطراف المدينة الحالية وتحديداً في (كَري ره ش التل الأسود) و(كَري حوشي تل حوشي) أثبتت من خلال المخلفات الفخارية القديمة جداً ارتقاء تاريخ سنجار إلى عصور متأخرة في ما قبل التاريخ المتأخر. (1)&

&منذ أن بزغت شمس الحضارة قبل آلاف السنين و سنجار أو (سنكارا) أو (سنغارا) كما كان يطلق عليها البابليون و (شنكَال) كما أطلق عليها الآشوريون، كـانت ميداناً لصراع الحضارات ومن ثم بعد ذلك الإمبراطوريات، وقد عرفت سنجار عند المصريين القدماء بلفظة (سنكار) وعند الاشيين بلفظ (شنخار) أما عند اليونان والرومان فكانت (سنكارة) حتى أطلق عليها الإمبراطور الروماني (اورليوس) اسم (اورليا) عندما جدد بناءها في حدود عام 199م (2) (3)، بعد أن اسقطوا فيها مملكة آرامية تحت تاج الملك (معنو) الذي ولى هاربا إلى أراضي كنعان في فلسطين اليوم في حدود عام 114م وترك سكانها يواجهون مصيرهم كما فعل البعثيون حينما سقط سلطانهم في بغداد فولوا هاربين مع ما خف وزنه وغلا ثمنه تاركين مدينة تأن ألما وفقرا وبطالة وبنى تحتية محطمة.

&صحيح أن كثيراً من السنجاريين كانت قد أصابتهم الصدمة وصعقوا حينما هاجمهم الرومان في مدينتهم الثرية الهادئة، وان كثيرين منهم قتلوا أو جرحوا دفاعا عن (معنو) ومملكته، فلم يكن هناك وقتئذ خيار أخر، ولكنهم لو كانوا يعلمون ما سيفعله الرومان في مدينتهم بعد ذلك لما ابتأسوا، وأي بديل أقامه أولئك القادمون من الشمال؟.&

&لقد وضع القائد الروماني (لوسيوس كيوتوس) نصب عينيه موقع المدينة وبعدها عن المدن التي حولها، وكيفية ربط هذه المدينة الجميلة ببقية المدن في عمق الإمبراطورية، وإعادة بنائها وفق رؤيته، وهكذا تقدم هذا القائد بأفكاره إلى الإمبراطور (طريانوس) بعد إضافة سنجار إلى حواضرهم، فما كان من الإمبراطور إلا أن أصدر أوامره بتعبيد الطريق بين سنجار ونصيبين برصفه بالحجارة في بداية عام 115 م، وبذلك يكون الرومان قد وضعوا الحجر الأساس لأول شارع معبد بين سنجار وخارجها وكان ذلك باكورة أعمالهم الحضارية المتطورة في المدينة.&

&لقد كانت الرؤية الرومانية عسكرية مدنية في قيامها بتبليط الشوارع بين سنجار والمراكز الحضرية الأخرى في الإمبراطورية، وكانت الحلقة الأولى في سلسلة الحضارة التي بدأت تدخل المدينة لأول مرة، فلم يمضِ قرن على ذلك الطريق حتى باشر الإمبراطور (ساديروس الكسندر) برصف طريق أخر يمتد من سنجار حتى الخابور.&

&وحينما كان المئات من البشر أو ربما الآلاف ينقلون الحجارة من الجبل إلى حيث يتم رصفها باتجاه نصيبين والخابور كان السنجاريون ينفذون بناءً في مركز مدينتهم حيث وضع المهندسون الرومان تخطيطا جديدا للمدينة ابتدئوه بالسور الكبير الذي يلف المدينة من كل أطرافها، وبذلك أمنوا لهم ولسكانهم حياة أكثر سلاما واستقرارا أمام تهديدات وهجمات الفرس وغيرهم في أطراف المدينة الجنوبية والشرقية، ولم يجد الرومان صعوبة في الحصول على البناة والمهندسين والعمال، فلقد عرف السنجاريون بحبهم للبناء والأعمار وولعهم في التغيير، وتختزن ذاكرة التاريخ أسماء كثيرة من أولئك البناة والنقارين وصناع الجص وبناة التسقيف بالحجارة و(الخرشان) (4)، فانهمكوا مع الرومان في تهيئة تلك الكتل الصخرية الكبيرة لبنائها كسور للمدينة.&

&يعتقد أن المسيحية دخلت إلى المدينة بعد هذه الحقبة، حيث عرفت المراجع أسقفا مسيحيا يدعى (معين) قيل انه بنى العديد من المعابد، حيث تؤكد كثير من المراجع التاريخية والكنسية إن أول دير بني في سنجار كان (دير عاصي) ويعرف أيضا بـ (دير برقيطي) وكذلك حمل اسما أخر هو (دير باعوث) في حدود سنة 500م، وقد أصبح في ما بعد من أهم المدارس المسيحية في القرن السابع الميلادي، ومن مشاهير كهنته وعلمائه الكاتب (سليمان ابن جرف)، وما تزال آثار هذا الدير قائمة حتى الآن حيث تقع أطلاله على بعد اقل من ساعة في وادٍ سحيق بوسط الجبل شمال المدينة، وهناك ديران آخران تم بناؤهما بعد دير عاصي وهما (دير ووزنه) ويقع فوق قمة جبل سنجار شمال دير عاصي مباشرة، وقد بني من الصخور الضخمة غير المنحوتة، والدير الآخر هو دير (زد شكه) ويقع بالقرب من منطقة (جيل ميرا) في قمة جبل سنجار، ويسمى أحيانا بدير الزلازل، ولا تزال آثارهما باقية لحد هذا اليوم.

&

[email protected]