تأتي صعوبة وعدم دقة العلوم الإنسانية وقوانينها، من أن الإنسان فرد فريد& uniqueلا يتكرر. فالمجتمعات الإنسانية ليست مثل قطعان الغنم، تتكون من أفراد متماثلين، يطلق على كل منهم لفظ "قطعة" أو "رأس"، بحيث يمكن بدراسة طبيعة "قطعة" واحدة، أن نحيط علماً بكل شيء عن المجموع. فالكيانات الإنسانية خليط من الأفراد المتمايزين المتفردين، وإن كان هذا لا يعني عدم اشتراكهم في الكثير أو القليل من الصفات والملامح المشتركة، سواء كانت ملامح بيولوجية أو ثقافية أو غيرها. وعلى ضوء هذه المشتركات بالأساس تقوم المجتمعات، على قاعدة التوافق الاختياري الحر. وقد يلحق بها تأثيرات جمعية (مجتمعية) تتجاوز المشترك، إلى التضييق أو قهر فرادة الإنسان وتميزه. لذا تنقسم المجتمعات إلى مجتمعات حرة، ومجتمعات تسحق الفرد، عبر ما يسمى العادات والتقاليد وثوابت الأمة وقيمها الأصيلة وما شابه من مقولات، تغلف القهر بعناوين مقدسة ورشيقة، لا يسهل اكتشاف ما تحتويه من ظلم وإجحاف بإنسانية الإنسان.
العلوم الإنسانية إذن، بناء على المشتركات التي تجمع بين أفراد المجتمعات، لا تفتقد بصورة مطلقة الأساس العلمي في دراستها للمجتمعات. كما يعوزها الكلية أو الشمولية والدقة لمفاهيمها وقوانينها، تلك التي تتمتع بها العلوم الفيزيائية والكيماوية والبيولوجية، التي تتعامل مع المادة، سواء الحية منها أو مفتقدة الحياة. لذا لا نستطيع بذات الدرجة من اليقين العلمي الذي للعلوم الطبيعة، أن نستند إلى قوانين أو نماذج اقتصادية واجتماعية وسياسية، باعتبارها قابلة للتطبيق المباشر والفوري، على "صنف البشر"، أينما وحيثما كانوا.
هكذا لا يمكن ترتيب النظم السياسية التي عرفها الإنسان خلال تاريخه وفقاً لأفضليتها، بحيث نستطيع القول أن هذا النظام أفضل النظم، وأن ذاك النظام هو أسوأها. قولنا هذا بالطبع ليس من قبيل "الحياد الأعمى" أو "اللاأدرية" السياسية. هو فقط يأتي من أن "النظام السياسي الأمثل" ليس تميمة أو أيقونة مقدسة، منفصلة عن المجتمع الذي سيطبق عليه.
هناك اتجاهان مختلفتان لتقييم النظم السياسية، وإن بدى الفارق بينهما دقيقاً أو شعرياً. الاتجاه الأول ينظر للنظام السياسي الأمثل، من وجهة أنه النظام الذي يأتي بأفضل النتائج أو المخرجات، من المعطيات الوطنية والمجتمعية المتواجدة على أرض الواقع. وبتعبير آخر هو النظام الذي نحصل منه على "أفضل الممكن". وواضح هكذا أن مواصفات النظام الأمثل سوف تختلف من مجتمع إلى آخر، بذات درجة الاختلاف بين طبائع وأوضاع شعوب العالم المختلفة.
الاتجاه الآخر في تقييم النظم السياسية، هو السؤال عن النظام السياسي، الذي خرجنا من مسيرة الإنسان الحضارية وتطورة السياسي، بأنه النظام الذي يعطينا أفضل المخرجات بصورة مطلقة، والذي يتيح أكبر درجة من تفجر ونمو ملكات الإنسان الإبداعية. هنا الرؤية شاملة وتعميمية، إذ تعبر الاختلافات الطبيعية والحياتية بين الشعوب، لتنظر فقط إلى درجة التحضر وسعادة الفرد، التي استطاع النظام السياسي تحقيقها. هنا وبعد فشل وانهيار النظم الاشتراكية الشمولية، نستطيع باطمئنان القول، بأن "النظم الديموقراطية الليبرالية العلمانية"، هي أفضل ما توصل إليه الإنسان من نظم سياسية.
الفارق الدقيق بين الاتجاهين والنظرتين، ومعنى كل نظرة منهما، هو ما يتسبب في الخلط بينهما. وهذا يؤدي إلى انحراف مزدوج الاتجاه. الانحراف الأول هو التركيز على الاتجاه الأول، والجهل أو تجاهل الاتجاه الثاني. هنا سنجد من يصنف الشعوب، على ضوء ما يشهد العالم الآن، على وجه الخصوص بالشرق الأوسط، من نتائج تبدو لنا شاذة وعجيبة. لنجد أنفسنا نقرر باطمئنان ويقين عملي، أن هناك في الشمال والغرب شعوب تصلح لها الحرية والديموقراطية. وهنا في الشرق الأوسط لا يصلح لنا غير الاستبداد والقهر، حتى تنتظم حياتنا. ثم نتوقف عند هذا الحد، أو هذه النتيجة، التي صارت هكذا وكأنها قانون أبدي، أو قانون طبيعي كالقوانين الكيميائية والفيزيائية. هكذا نحكم على شعوب أن تظل داخل دائرة لا تتخطى حدودها، من حيث التحضر ومواكبة الحداثة. ونحرمها من المنجزات الحضارية والإنسانية للبشرية. فسياسة تحقيق "أقصى الممكن" من أوضاع راهنة، أو ما نسميه "فن الممكن"، قد يكون منطقياً ومقبولاً، بل ومطلوباً مرحلياً، لكن ليس بالحتم أن يعني أن ما توصلنا إليه هو نهاية المطاف. وألا يكون هناك مرحلة أو مسيرة أخرى ثورية وراديكالية، يمكن تنقل الشعوب في المستويات الأدني، إلى مستويات أعلى حضارياً، تلك التي تحتاج لنظم سياسية تختلف، عن تلك التي وقع اختيارنا عليها وفقاً لحقائق الواقع الراهنة.
الانحراف الثاني المضاد، يأتي من الفشل في إدارك ما يمثله الاتجاه الأول من واقعية عملية، تحتم اختيار النظام المناسب للشعب والظروف المناسبة. ويقفز إلى النقل الآلي لأفضل النظم المعروفة عالمياً في هذه المرحلة من الحضارة الإنسانية، وهي بالطبع النظم الديموقراطية. ولقد قلنا "النظم الديموقراطية" فقط، ولم نأخذ باقي توصيفها، الذي أوردناه أعلاه، وهو " النظم الديموقراطية الليبرالية العلمانية". فمجمل وكامل هذا التوصيف، يتطلب شروطاً لا تتوفر إلا في حالات معينة، غالباً ما تفتقد في شعوب ما نسميه "العالم الثالث" أو حتى "الرابع" و"الخامس". لتكون النتيجة ما نشهد في منطقة الشرق الأوسط، والتي جلبت لها "الديموقراطية" الخراب والدمار. بالطبع ليس لعيب في "الديموقراطية" ذاتها. وإنما لأننا قفزنا دون علم أو وعي، إلى حالة يفصلنا عنها مسافة، نحن غير قادرين على عبورها وثباً.
هذا الانحراف الأخير، هو الجريمة التي ارتكبتها النخب العربية، فيما سمي بالربيع العربي، وساندتها في ارتكابها أنظمة حكم ومؤسسات أبحاث دول العالم الغربي.
الآن علينا في منطقة الشرق الأوسط أن نبدأ بالفلسفة الأولى في اختيار نظمنا السياسية، أي تلك التي تستطيع أن تحقق "أقصى الممكن"، بالتوازي مع التمهيد لتغييرات ثقافية ومجتمعية واسعة وجذرية، كفيلة بنقلنا في وثبة ثورية إلى مستوى حضاري أرقى، نستطيع فيه أن نحصل على "نظام ديموقراطي ليبرالي علماني".
[email protected]
&