لا يملك العلماء اليوم أداة أكثر فعالية وشمولية من الضوء لدراسة الكون المرئي، ومعرفة مكوناته وهندسته وشكله وتاريخه وتطوره الخ.. فالضوء هو الذاكرة الحية لكل ما حدث ويحدث في هذا الكون المرئي منذ ظهوره للعيان قبل 13.825 مليار سنة إلى اليوم. ولكن ما نراه بفضل الضوء لا يمثل سوى جزء ضئيل جداً لا يتجاوز الــ 4% من محتويات هذا الكون المرئي المليء بالألغاز والأسرار والغموض، فما بالك بما يتعلق بأكوان أخرى تقع خارج نطاقه المعلوم؟ تخيل علماء نظرية التعدد الكوني أو الأكوان المتعددة multivers أن الكون الكلي المطلق اللامتناهي على شكل جبنة غرويير مليئة بالثقوب وكل ثقب منها يمثل كوناً مستقلاً عن باقي الأكوان الأخرى وعددها لامتناهي، ومن بينها ثقب صغير عادي يقبع فيه كوننا المرئي الذي لا نرى منه ولا نعرف عنه سوى 4% هو الجزء المرئي والملموس والمألوف، والباقي نعلم بوجوده على نحو غير مباشر من مواد مضادة وسوداء وطاقات معتمة أو مظلمة كلها مجهولة الماهية يفصل بينها نسيج فضائي أو زمكاني لانهائي.

التكرار الكوني:

لو تخيلنا منطقة مكانية في الزمكان الكوني شكلها كروي ويبلغ نصف قطرها 41 مليار سنة ضوئية، وهو حجم يقارب نطاق أفقنا الكوني المعروف اليوم تقريباً، أي منطقة بحكم ثقب واحد من ثقوب جبنة الغرويير الكونية ذات الثقوب الكونية اللامتناهية العدد. ولنتخيل أن هذا الثقب الكوني من هذه المنطقة من الفضاء مليء بالجسيمات المادية والإشعاعات، فماهي التركيبات والتكوينات والتفاعلات الممكنة المختلفة لهذه الجسيمات؟ فكلما كان لدينا عدد أكبر من المواد أو القطع، كلما أمكننا خزن المزيد من المادة والطاقة، كلما تيسر لنا المزيد من التركيبات الممكنة كذلك، ولكن لا يمكننا التخزين إلى ما لا نهاية. فالجسيمات تولد الطاقة، وكلما توفر لدينا المزيد من الجسيمات كلما توفر لدينا المزيد من الطاقة. وعندما تحتوي منطقة ما من الفضاء على الكثير من الطاقة فإنها سوف تنهار تحت تأثير جاذبيتها الثقالية attraction gravitationnelle وتتحول إلى ثقب أسود. وإذا استمرينا بتغذية المكان بالمزيد من المادة والطاقة، فإن حدود الثقب الأسود، أو أفق أحداثه كما يقال في الفيزياء النظرية، سوف يكبر ويشغل حيزاً أكثر فأكثر من الفضاء. فهناك إذن حدود لكمية المادة والطاقة التي يمكن خزنها وتركيزها في منطقة من الفضاء بحجم معين. وبالنسبة لمنطقة بحجم أفقنا الكوني فإن حدود التخزين هائلة وتقدر بــ 56 10 غرام، والمهم ليس بالقيمة التقديرية للكمية بقدر ما هو وجود حدود معينة مهما كانت هائلة. فطاقة محشورة في حيز مكاني معين داخل أفقنا الكوني يعني عدد محدد من الجسيمات ـ إلكترونات وبروتونات زنيوترونات ونيوترينوات وميونات وفوتونات أو أي نوع آخر من الجسيمات المعروفة وغير المعروفة من الجسيمات الأولية المكتشفة أو التي ستكتشف لاحقاً مع مرور الزمن وتقدم التكنولوجيا. فعندما نتحدث عن طاقة محددة في أفق كوني محدد فإن ذلك ينطوي على أن لكل واحد من تلك الجسيمات الأولية مواقع أو مواضع محددة وسرعات. وبالتالي، بالنسبة للمجموع الكلي لتلك الجسيمات، فإن عدداً محدداً من الجسيمات، لكل منها عدد محدد من المواقع والسرعات، يعني أنه لا يوجد داخل هذا الأفق الكوني، سوى عدد محدد من التركيبات والتكوينات الممكنة التي تنجم عن تلك الجسيمات مجتمعة. وبلغة علمية أدق تستخدمها فيزياء الكونتوم أو الكموم، نتحدث هنا بدلا من المواقع والسرعات، عن " الحالة الكمومية أو الكوانتية l’état quantique لتلك الجسيمات. ويكون التعبير الأدق هو أنه لا يوجد سوى عدد محدود من الحالات الكمومية أو الكوانتية المرصودة أو المحسوبة لتلك الجسيمات في هذا الحيز المكاني أو الثقب في الشبكة الكونية patchwork cosmique. وبالفعل فإن حساب سريع بواسطة الحاسوب يكشف عن أن عدد التركيبات أو التشكلات والهئيات configurations المتميزة والملحوظة لجميع تلك الجسيمات داخل أفقنا الكوني يصل إلى 10 اس 10 أس 122، أي واحد يتبعه 10 أس 122 من الأصفار 10122 1 وهذا رقم مهول لكنه محدود ومحدد. والحال أنه حتى مع عدد محدد من الترتيبات والتشكلات للجسيمات، وعدد كافي من الثقوب أو الأماكن في الشبكة الكونية المشار إليها أعلاه، أي ما يكفي من الآفاق الكونية المستقلة، فسوف نجد أنفسنا حتماً أمام عدد من الأماكن أو الثقوب، يوجد فيها عدد متشابه ومتساوي بدقة وبنفس ترتيب الجسيمات الموجود في أفقنا الكوني، ومهما خلطنا الترتيبات والتكوينات والتراكيب على نحو مختلف عما عرفناه ودرسناه وفحصناه في فضاء واسع بما فيه الكفاية، سنصل حتما إلى حد لن يعد ممكناً معه العثور على تركيبات وترتيبات جديدة، وسنكون حينها مرغمين على عمل أو إعادة إنتاج نفس الترتيبات التي سبق أن استخدمناها. ففي كون لامتناهي في الكبر، يكون التكرار غير قابل للسيطرة. فهناك عدد لامحدود من التجويفات أو الثقوب في فضاء محدد، مع عدد محدد من التركيبات والترتيبات المختلفة للجسيمات، وبالتالي فإن التكوينات داخل مختلف التجويفات أو الثقوب سوف تتكرر حتماً بعدد لا محدود من المرات، هذه هي النتيجة التي أعطتها الحواسيب أو الكومبيوترات المتقدمة للمحاكاة في هذا المجال.

المعطيات الفيزيائية:

في تفسيرنا لتبعات هذه النتيجة يجب أن نتقبل المعطى الفيزيائي المفروز حاسوبياً وهو: أن أي نظام فيزيائي يتحدد بالعدد الممكن لتكوينات وترتيبات جسيماته الأولية. فلو عرفنا كيفية ترتيب وتنظيم كل جسيمات الأرض والشمس ومجرتنا درب التبانة وكل ما يوجد في باقي المجرات في كوننا المرئي عندها سيكون ممكناً معرفة تركيبة الواقع بكل أبعاده وغموضه، وهذه النظرة الاختزالية موجودة تقريباً لدى الغالبية العظمى من الفيزيائيين ولكن هناك العديد ممن لا ينظر للأمور بهذه النظرة ولا يراها بهذه الصورة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحياة، فالبعض يعتقد بوجود شيء آخر غير الجسيمات المادية الأولية مثل الروح أو النفس أو قوة الحياة الغامضة أو اللغز أو أي شيء آخر، ضروري لإضفاء السمة الحياتية الحية وتحريك الجزء الفيزيائي المادي. لا يوجد دليل مادي علمي على ذلك ولكن علينا أن نبقي أذهاننا منفتحة ونتقبل كل جديد مجهول بالنسبة إلينا اليوم في هذا المضمار. والتفسير العلمي المتفق عليه حالياً يقول أن الخصائص الفيزيائية والنفسية لأي شخص ما هي تجلي إلا للترتيب الدقيق لجسيماته الأولية التي تكونه، فتحديد وتعريف الترتيب الدقيق والمضبوط لتلك الجسيمات يقود إلى تحديد وتعريف الشخص بدقة تامة. ولو تقبلنا فكرة أن ترتيب وتنظيم الجسيمات الذي نعرفه في أفقنا الكوني، الذي هو جزء من عدد لا متناهي من الآفاق الكونية في شبكتنا الكونية المطلقة اللامتناهية العدد patchwork cosmique، يمكن أن ينسخ ويتكرر داخل أفق كوني آخر مجاور لأفقنا الكوني الذي نعرفه، فإنه سيشابه حتماُ أفقنا الكوني في كافة تفاصيله وحيثياته. وهذا يعني أنه إذا كان الكون لا متناهي فسون لن نكون الوحيدين الذين يعتقدون بهذه الرؤية للواقع. فهناك نسخ مماثلة تماماً لواقعنا ولأنفسنا موجود في مكان ما في أعماق الكون المطلق كأكوان توأم لكوننا وهي معادلة لنا في كل شيء.

أظهرت تجربة المحاكاة الحاسوبية أن نوع الترتيب والتنظيم لجسيمات أفقنا الكوني تتكرر في كل سلسلة من 10 أس 10 أس 122 أفق داخل الشبكة الكونية 122 1010ويتواجد بينها كون توأم يشبه كوننا تماماً، ولو استطعنا السفر إلى تلك النسخ لوجدنا أنها لا تختلف عنا بشيء ظاهرياً. فقد أكون في هذا الكون فنان فاشل وعالم فيزياء كفوء ومعترف به ومشهور، بينما في الكون التوأم يحدث العكس أي أكون فناناً كفوءً ومشهوراً وعالم فيزياء فاشل وذلك حسب الترتيب والتنظيم لجسيمات جسمي الأولية. وعلى مر الزمن يتزايد حجم المناطق أو التجويفات والثغرات الكونية داخل الشبكة الكونية المطلقة اللامتاهية العدد والأبعاد، ومن ثم تتداخل الآفاق الكونية فيما بينها وبالتالي لن تعدد الأكوان متوازية بل ستكون متداخلة ومتدامجة fusionné وبما أن الفضاء أو الزمكان لامتناهي فبالإمكان إعادة التوزيع والترتيب، ومن ثم التوسع والتكرار إلى ما لا نهاية. والخلاصة هي أن الواقع في كون معطى لامتناهي لا يشبه البتة ما يتخيله كل واحد منها عنه. ففي كل لحظة زمانية يحتوي الفضاء على عدد لا متناهي من المواقع المنفصلة التي تضم الأكوان المتعددة في حالة شبكية multi univers en patchwork أي أن ما نراه ونرصده باعتباره كوننا المرئي ليس سوى واحد من بين عدد لامتناهي من الأكوان المختلفة عنه أو المشابهة له، حيث أن تنظيم وتوزيع وترتيب الجسيمات الأولية يتكرر إلى مالانهائية في العديد من الأكوان الأخرى والواقع المتكون في كون معين يتكرر ويعاد إنتاجه بعدد لامحدود من المرات في هذا الكون المتعدد.

مالعمل؟

قد يعترض البعض على هذه النتيجة الغرائبية الفنطازية ويقلب الحجة علينا بالقول إن هذه النتيجية الرياضياتية الحسابية الناجمة عن المحاكاة الحاسوبية أو الكومبيوترية قد تنم عن خطأ ما في هذه الفرضية أو تلك التي انطلقنا منها في حساباتنا؟

فهل يمكن أن تكون فرضية أن الكون كله مليء بالجسيمات الأولية المنظمة والمرتبة على نحو ما، خاطئة؟ وقد تكون فرضية وجود أكوان أخرى وراء أفقنا الكوني غير صحيحة وإنه لايوجد وراء هذا الأفق سوى امتداد فضائي زمكاني فارغ. لا شيء مستحيل لكن المضي في هذا الاتجاه لن يحسم الجدل ولن يفضي إلى حلول سحرية يتكون حولها إجماع.فالنظريات الكوسمولوجية التي نعرفها وندرسها لا تقودنا على الإطلاق في هذا الاتجاه. قد تتغير قوانين الفيزياء الجوهرية التي نعرفها فيما وراء أفقنا الكوني المنظور، الأمر الذي يعيقنا في تحليلنا النظري لتلك المناطق البعيدة غير المرئية، ولكن هذه إمكانية واردة، فقد قدمت لنا التكنولوجيا الحديثة والمعدات والأجهزة المتقدمة براهين لايمكن دحضها أو الاعتراض عليها تصب كلها لصالح الفكرة التي تقول إن تغير وتنوع القوانين الفيزيائية خارج أفقنا الكوني غير كافي لدحض فرضية الأكوان المتعدد في حالة شبكية multiunivers en patchwork.

من الممكن مناقشة فرضية الكون المحدود، وأن الفضاء محدود لكنه شاسع جداً ويمكن أن يحتوي على عدة مناطق وآفاق كونية لانراها أو نرصدها اليوم بسبب قصور أجهزة الرصد التي نمتلكها في الوقت الحاضر لكنه لايمكن أن يضم توائم لكوننا متجمعة في صيرورة الأكوان المتعدد في حالة شبكية multiunivers en patchwork.

عمل بعض علماء الفيزياء على إرجاع حدث الانفجار العظيم إلى اقرب ما يمكن للزمن صفر temps zéro بحثاً عن فهم أعمق للأصول الكونية ولطبيعة الذرة البدائية التي حدثنا عنها الراهب البلجيكي جورج لوميتر الأب الحقيقي لنظرية الانفجار العظيم، وطوروا نموذجاً أسموه بالكوسمولوجيا التضخمية cosmologie inflationaire وبموجب هذه النظرية، وبفضل البراهين والأدلة العلمية والمختبرية والمشاهدات لكون لامتناهي الأطراف وخالي من الحواف، تم التأكيد على صحة استنتاجاتنا بشأن الأكوان المتعدد في حالة شبكية multiunivers en patchwork لأن إثبات التضخم الكوني inflation cosmique جعل من البديهي التفكير بوجود أكوان متوازية.

هذا النمط من التفكير موجود منذ قديم الزمان وكان أول من رفع لوائه الثائر الشهيد جيوردانو برونو الذي تحدى الكنيسة وسفه أطروحتها عن مركزية الأرض ودوران الشمس حولها ومركزية الإنسان واعتباره أهم ما في الكون وأن كل شيء مسخر له، وقال أن كوننا غير محدود وهناك أكوان وعوالم وحضارات عاقلة وذكية أخرى لايمكن عدها، فأحرق حياً في ميدان وسط روما بتهمة الهرطقة والخروج على تعاليم الكنيسة الإلهية المقدسة. واليوم لم يعد هناك من يجادل في أن كوننا المرئي أو المنظور هو واحد من بين أكوان عديدة متشابهة أو مختلفة تشكل بمجموعها كوناً مطلقاً في حالة شبكية multiunivers en patchwork ورغم غرابة الفرضية فهي ممكنة وقد تكون صحيحة وستثبتها الأزمان القادمة. فالصورة التي زودنا بها مقراب أو تلسكوب الفضاء الأوروبي بلانك satellite Planck والتلسكوب بيسيب 2 BICEP التي درست وحللت الاستقطاب في الخلفية الكونية الميكروية،(CMB)عن الكون قدمت أدلة على الانفجار العظيم (Big Bang) وأمواج الجاذبية ondes gravitationnelles وصولا إلى شيء غريب يعرف بالأكوان المتعددة (multiverse).استناداً على صورة وفرضيات وشروحات وتفسيرات مستمدة من علم الكونيات والأرصاد الفلكية وفيزياء الجسيمات، والتي تثبت كلها الحسابات القائلة بأن الكون المرئي يحتوي على مكونات ومناطق كثيرة يتجاوز كثيراً ما يمكننا رؤيته ورصده حالياً وبالتالي فإن الكون الذي نعرفه ليس فقط مجرد فضاء شاسع يمتد بعيداً في ما وراء الجزء المرئي منه، أي ما بعد الأفق الكوني المرصود فحسب، بل قد يكون مكوناً من مناطق متمايزة وذات ملامح متنوعة ومتعددة الصفات والخصائص والسمات مما يسمح لنا باعتبارها أكواناً أخرى منفصلة ضمن كون متعدد مطلق يضمها جميعاً. ففي الماضي القريب كان العلماء يعتقدون أن مجرتنا درب التبانة هي كل الكون وما يتعداها ليس سوى غمامات أو سحب كونية وغازات ولكن اتضح فيما بعد أنها مجرات أخرى تعد بمئات المليارات وتشكل فيما بينها حشوداً أو عناقيد وأكداس مجرية لا تعد ولا تحصى.

كل ما تجمع لدينا اليوم من نتائج رصد وقياسات ومشاهدات من الأرض وفي الفضاء الخارجي ومعلومات وحسابات رياضية، يدفعنا للاعتقاد بصحة فرضية التعدد الكوني، وإن كوننا المرئي هو أحدها، وإن توسعه يتسارع، وهناك اختبارات تجريبية تثبت قصة الكون التضخمي، التي توحي بوجود عدد لانهائي من الانفجارات العظيمة، كما أوحت بها نظرية الأوتار الفائقة، التي سمحت بتصور أكوان أخرى بخصائص وصفات ومزايا مختلفة تماماً عما يكتنف كوننا المرئي، وبالتالي فهناك تنوع وليس تماثل أو تناظر يوسم كوننا، وهي النظرية التي تقول بوجوب وجود 9 إلى 10 أبعاد مكانية وبعد زمني واحد، ستة أو سبعة منها مخفية أو منطوية على نفسها وغير قابلة للرصد لأنها ملتفة على نحو شديد التعقيد حول نفسها. كما تنص هذه النظرية على أنّ كوننا هو واحدٌ من بين مجموعة واسعة ومتنوعة من الأكوان الأخرى. ولا نعرف كم يبلغ عدد تلك الأكوان المتعددة، لكن تفترض التقديرات بوجود عدد لانهائي من الأكوان.

بتنا نعرف الآن أن كوننا المرئي يمتد إلى ما وراء حدود وإمكانيات أجهزة الرصد التي نمتلكها اليوم حيث يقدر أفقنا الكوني بــ 13.825 مليار سنة ضوئية لكنه في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير بسبب التمدد واتساع حجم الزمكان الكوني حيث صار يقدر اليوم بــ 40 إلى 45 مليار سنة ضوئية. ووفق نظرية التضخم الكوني، فإن الكون يبدو لنا مسطحاً رغم تشديد نظرية النسبية لآينشتين على انحنائه وتحدبه، وبالتالي يحق لنا القول أنه قد يكون غير محدود، وإن هناك أشياء وأمور غريبة ومجهولة يمكن أن تحدث أو حدثت بالفعل في الفضاء غير المحدود، فعندما نتجاوز المقاييس البشرية المحدودة القيمة عند ذلك يمكننا توقع حدوث أشياء وأحداث مناقضة للبديهة والمنطق البشري، فمن كان يتخيل في الماضي صحة مبدأ آينشتين في تباطؤ الزمن مع السرعة وإنه كلما انطلقنا بسرعات كبيرة كلما تباطأ الزمن بالنسبة إلينا، وإذا رصدنا نجماً هائلاً فسيحصل في نهاية حياته انهيار على ذاته ويتحول إلى ثقب أسود، وإذا صغرنا جسم إلى مستوى لامتناهي في الصغر فسيمكن له أن يتواجد في مكانين في آن واحد؟ ومن هنا يطلق العلماء العنان لمخيلتهم ويتوقعون أن تكون الطبيعة الحقيقية للواقع غريبة التصور ومناقضة للشعور البديهي والمنطقي المقبول عقلياً. إن حدث التضخم الفجائي في الكون بعد الانفجار العظيم قد وقع ولم يبلغ كوننا من العمر أكثر من 10-30 من الثانية بيد أن العلماء يعتقدون أن انفجارات عظيمة أخرى حدثت في نفس الوقت وكل واحد منها أنتج فقاعة كونية، تكون إما تلاشت أو مازالت مستمرة، أي أن هناك فقاعات كونية لامحدود العدد، منها من تحول إلى كون يشبه كوننا، ومنها من غدا كوناً مختلف تماماً عن كوننا، ومنها ما أجهض وهو في طور النطفة. والمحصلة الإجمالية هي وجود ما يشبه جبنة الغرويير الفرنسية التي تحدثنا عنها سابقاً وهي مليئة بالثقوب وكل ثقب فيها هو عبارة عن كون فقاعي ونسيج الجبنة هو الفضاء بين الفقاعات ــ الأكوان، وهذا النسيج الزمكاني يتوسع بأسرع من سرعة الضوء، وهناك باستمرار فقاعات كونية جديدة تستمر بالتشكل في نسيج الجبنة الكونية ناجمة عن انفجارات عظيمة ضمن سلسلة تفاعل لاتنتهي.

يفترض أن هذه الأكوان تتواجد خلف أفقنا الكوني، ولكن لم يتوفر لها الوقت الكافي حتى يصل الضوء القادم منها إلينا، لذا فهي من حيث المبدأ غير قابلة للرصد.

يقول العالم آلان غوث، صاحب نظرية التضخم الكوني المفاجيء، إنه نجح في تقديم التنبؤات والتوقعات التي قدمتها نظريته التضخمية بشأن التسطح الكوني والتجانس وثبات المقاييس بالنسبة للجزء المرئي والمرصود من الكون المرئي، وهناك كذلك تنبؤات تخص أجزاء الكون غير المرئية أو التي لايمكننا رؤيتها في الوقت الحاضر. فدراسة نظرية التضخم الرياضياتية هو الذي قاد العلماء إلى فرضية التعدد الكوني وجميع أنواع المادة الأخرى. ولقد نجحت نظرية التضخم الكوني واجتازت كافة الاختبارات التجريبية، وهي تتمتع بالمصداقية في طرحها لفرضية تعدد الأكوان حسب شهادة علماء مثل ليونارد سيسكند وآركاني حامد و ماكس تيغمارت وغومي غاريكا وأندريه ليند و ألكساندر فلينكن وغيرهم.

هناك الكثير من الأشياء لايمكن رصدها أو رؤيتها ولكن ليس بالضرورة أن تكون الكيانات غير القابلة للرصد خارج نطاق العلم. فمثلاً تتألف كل من البروتونات والنترونات من جسيمات دون ذرية particules subatomiques تُعرف بالكواركات quarks، لا يستطيع العلماء رصدها بشكلٍ مباشر، إلاّ أن وجودها وخواصها تمّ التأكد منها من خلال الطريقة التي تتصرف بها الجسيمات عندما تتصادم مع بعضها البعض، ففي كل مرة يتكون فيها كوارك، وهو جسيم يحمل شحنة غير صفرية، يتكون معه بالضرورة كوارك مضاد، يكون مساوي له بالكتلة ومضاد له في الشحنة. ويمكن لكوارك وكوارك مضاد أن ينتجا فوتوناً عديم الكتلة وهو الجسيم الموصل للطاقة الكهرومغناطيسية وبدوره يمكن للفوتون أن ينتج زوجاً آخر من الجسيمات والجسيمات المضادة وتبلغ الشحنة الكلية لهذه الجسيمات صفراً. كما يوجد داخل بحر البروتونات جسيمات افتراضية مثل الغلوونات وهي جسيمات تعمل على توصيل القوة النووية القوية أو الشديدة وهي مماثلة للفوتونات التي تتبادلها الجسيمات ذات الشحنة الكهربائية لإحداث تفاعلات كهرومغناطيسية. ولكن هذا لا ينطبق على الأكوان المتعددة، إذ لا وجود لإشارة من كونٍ آخر وصلت إلى تلسكوباتنا، او ستصل إليها. وهناك الطاقة السوداء أو المظلمة أو المعتمة، وهي مكون أساسي في الكون، وهي الأخرى، غير مرصودة أو مرئية أيضاً لكن وجودها بات مثبتاً وقاطعاً وهي تمثل أقوى الدلائل على صحة نظرية الأوتار الفائقة وصلتها بطاقة الفضاء الفارغ أو طاقة الفراغ المعروفة عند عامة الناس بالطاقة المعتمة أو الداكنة أو السوداء، وهي البديل الممكن اليوم لما تنبأ به آينشتين في بداية القرن العشرين وسماه الثابت الكوني، الذي يمكن أن يكون متنوعاً وفق مبدأ الأنتروبية، ويفترض هذا الأخير أن الثابت الكوني يمكن أن يكون متحولاً أو متغيراً من مكان لآخر ومن كون لآخر. فهناك ثابت كوني لكوننا المرئي وآخر لكون آخر يختلف عنه في كل شيء. وهناك المادة السوداء أو المظلمة وهي مادة بكل معنى الكلمة حيث تتماسك أجزاؤها بفعل تأثير الجاذبية أو الثقالة وهي تسهم، مع المادة العادية المرية، في تكوين البنى المختلفة للكون مثل المجرات، لكنها على عكس المادة المألوفة التي تتكون منها أجسامنا وأرضنا وشمسنا ومجرتنا، لا تشع هذه المادة السوداء ضوءاً و لا تمتصه لذا تصعب رؤيتها لأننا نرى الأشياء بواسطة الضوء المنعكس منها أو عنها، أي الضوء الذي تشعه أو تمتصه وتعكسه. فهذه المادة لا تتفاعل مع أي شكل من أشكال الضوء كما قلنا سابقاً لكننا نعلم بوجودها بفضل تأثيراتها الجاذبة مع جهلنا بماهيتها الحقيقية.

يكثر الجدل في المعايير التي تجعل من نظرية ما نظرية علمية théorie scientifique، إلاّ أنّ علينا على الأقل أن نتحقق مما إذا كانت نظرية الأكوان المتعددة قابلة للاختبار لتستحق أن تكون نظرية علمية مقبولة من قبل الوسط العلمي، وهل تُعطينا تنبؤات يُمكننا اختبارها في مختبر أو بالاعتماد على تلسكوباتنا؟ الجواب هو "نـــــعم"، لكن ليس كما نتوقع، إذ يتضمن استكشاف نظرية الأكوان المتعددة بعض الأفكار المعقدة جداً والجدلية جداً.

&فلو كانت نظرية الأكوان المتعددة مسؤولةً عن توليد أكوانها جرّاء بعض العمليات الفيزيائية، لا بدّ أن تترك هذه العمليات بصماتها على تلك الأكوان. وهذه العلامات هي التي ربّما سيتم مشاهدتها بواسطة أجهزة متطور مثل BICEP2 أو كبلر أو بلانك. فعمليات الرصد لا تسجل حالة الكون كما نراها الآن فحسب، وإنما تستعرض كذلك المراحل الزمنية السابقة وذلك بسبب سرعة الضوء المحدودة. فكثير مما نرصده الآن يمكن أن يكون من عناصر الكون في مراحله المبكرة لكن ضوءها وصل إلى التلسكوبات بعد مرور مليارات السنين من انبعاثه منها. ولذلك فإن الحجم الحالي الذي نراه اليوم للكون المتمدد تمدداً هائلاً، يفوق حجمه السابق بكثير. فنظرية التضخم تقدم تنبؤات حول مرحلة بداية الكون وتفترض النظرية أنّ الكون في مراحله المبكرة عانى من توسعٍ سريع بشكلٍ غير اعتيادي ويُعرف هذا التوسع بالتضخمinflation. وتترك أمواج الجاذبية les ondes gravitationnelles في العديد من نسخ التضخم، بصمة خاصة ضمن الإشعاع الأحفوري rayonnement fossile، الذي تمَّ رصده مؤخراً، على شكل دوامات مميزة في هذا الضوء القادم من بداية الكون.

في بعض نسخ التضخم، يُعتقد أن تؤدي العمليات التي أدت لتضخم كوننا إلى إنتاج أعداد ضخمة من أكوان أخرى، لكنّ الأدلة التي قادت إلى إثبات حدوث عملية التضخم لا تُعتبر أدلةً مباشرة تماماً على صحة نظرية الأكوان المتعددة وإنّما هي البدايةُ فقط.

&لا يمكننا رؤية عملية خلق الأكوان الأخرى، ولكن إذا وجدت أدلة تتصل بالعمليات الفيزيائية التي وفرت الطاقة لتولد الأكوانle générateurs des univers، فسوف نتقدم خطوة أخرى نحو حل اللغز الكوني.&

ويفضل العلماء أن تلجأ نظرية الأكوان المتعددة لفيزياء مُختبرة وراسخة بشكلٍ جيد، مثل الجاذبية la gravité والحقول الكوانتيةles champs quantiques، ولكن ما يتم التخوف منه أن تحتاج النظرية لإيجاد فيزياء جديدة أو وضع الفيزياء المعروفة في حالاتٍ يتوقع عادة أن تتحطم عندها قوانين الفيزياء المعروفة.

إلا أن الأوراق المكونة لنظرية التضخم لا تزال مختلطة تماماً: فبعض الفيزياء الأساسية التي نحتاجها معروفة، أما بعضها فهي افتراضية ويوجد بعض القلق بأنّها قريبةُ من (أو ربّما داخل) نظام الجاذبية الكمومية أو الكوانتيةla gravité quantique، التي تتحطم عندها كل نظريات الفيزياء المُختبرة.

ستتنبأ نظرية الأكوان المتعددة بخواصٍ إحصائية لأكوانها وبالتالي يُمكننا أن نسأل فيما إذا كان كوننا يمثل نوعاً من الأكوان التي يُتوقع رصدها. فكلما كان كوننا أكثر استثنائيةً، كلما كان من المرجح أكثر أن تقوم نظرية الأكوان المتعددة بإعطائنا تفسيراً أفضل لكوننا. وإذا ما كان كوننا غريباً بشكل كبير عن القسم الأساسي من نظريات الأكوان المتعددة، فإنّ مجمل فرضية الأكوان المتعددة تصبح موضع تساؤل.

لكن الافتراض القائل بأنّ نظرية الأكوان المتعددة هي نهاية العلم ليس صحيحاً، كما يدعي البعض. بل ربّما تكون البداية والبداية فقط لمغامرةٍ علمية هي الأكبر على الإطلاق، وفي نفس الوقت ستكون نهاية للتصور الميثولوجي للكون باعتباره ثمرة لعملية خلق مباشر رباني، فهل لكل كون خالق أو إله مختلف أم إن هناك خالق واحد لهذا العدد اللامتناهي من الأكوان المتعددة والمتنوعة؟.

يتبع

[email protected]