لم يشهد التاريخ تشتتاً في الأفكار وضبابية في المواقف بين مختلف مناطق العالم بخصوص محاولة فهم ما يجري في الشرق الأوسط كما هو الحال في هذه الأيام. ويصعب فهم هذه المعادلة حتى على أصحاب النظريات السياسية نفسها؛ فما أن يُمسك أحدهم بخيط من خيوط اللعبة ويبدأ بتفكيك خيوطها حتى تظهر له عقدة صعبة الحل ليعود صاحبها باللعب بالخيوط مجدداً فيجد نفسه أمام عُقَدٍ كثيرة وأكبر وأصعب في فهم ما يجري على الساحة العربية وفي موضوع سوريا على وجه الخصوص. فبعد أن حاول بعضهم بلع مقولة أن المسألة بدأت كمظهر من مظاهر الربيع المحترم للمطالبة بحقوق الشعوب كما يقول أصحاب هذه النظرية عاد وناقض نفسه عندما وجد البوصلة تنحرف عن الهدف. ولم أكن أنا من هؤلاء القوم لسببين: الأول أن هذا (الربيع) بدأ بسوريا بعد أن بدأت مظاهر الخيبة العربية منه واضحة تماماً والثاني هو أن بدايته كانت انقلابية على النظام بشعار "زنقة زنقة، دار دار بدنا نشيلك يا بشار".&

تطوعت قنوات الربيع إياها وشيوخها بإضرام نار الحرب هناك والتحريض على النظام؛ فازداد النظام قعماً وازدادت المعارضة له ضراوة مستعينة بما يأتيها من دعم من مختلف المناطق الحدودية بعلم أو بدون علم أصحابها، مما أعطى كل الجهات (مع أو ضد) الحق في التوجه لسوريا ليصبح كلبنان تتصارع على أرضه كل المتناقضات، مع فارق مهم هنا وهو أن الجيش كرمز للنظام لم يقف متفرجاً فأصبح جزءاً من اللعبة. وأعطيت هذه اللعبة غطاء دينياً مما مهد لداعش التي حيرت العلماء كما حيرت (حتى) سيبويه أن تظهر وتجد لها مناصرين علانية وسراً.&

فكل من قال أن داعش صناعة أمريكية ذُهل عندما رأى أمريكا تقود تحالفاً لمحاربتها، ومن سخَّر بوق قنواته لإشعال نار الفتنة في سوريا استغرب عندما رأى مفتيها يخرس ولم يذكر داعش ببنت شفه رغم كل فيديوهات الذبح وقطع الرؤوس. ومن صفق للدور التركي لوقفه ضد الإمبريالية وبأن تركيا باب المجاهدين في سبيل الله غاضَّاً الطرف على أنها أيضاً باباً بالاتجاه المعاكس للتهريب والتمويل لداعش ضرب على رأسه بالجدار عندما رآها تشن غاراتها لتضرب داعش كقربان للسماح لها بضرب الحزب الكردي التركي. وأخيراً وليس آخراً جاء الدور الروسي ليعلن أنه هو الآخر جاء لسوريا لمحاربة داعش والهدف هو أنه على ما يبدو سئم من دور التصريحات وأراد الانتقال للدور الفعلي بدلاً من الكلمات والشعارات لمواجهة الولايات المتحدة. قلت وليس آخراً لأنه ربما كانت الصين أيضاً أو غيرها قادمة، فمن يدري؟

لقد رأت روسيا أن عليها استرجاع دورها التاريخي كوريثة للاتحاد السوفيتي وحلف وارسو لاستعادة ما كان يعرف بالدب الروسي الذي كان أحد أقطاب الحرب الباردة في القرن الماضي حتى لو أدى بها ذلك إلى السقوط في بحر النزاع السوري كما حدث في أفغانستان. لقد خسر الاتحاد السوفيتي كثيراً في أفغانستان وأكبر خسائره كان التفكك طبعاً، ولا أدري ماذا ستخسر روسيا الوريثة لاحقاً نتيجة لسوريا. لقد خسرت روسيا العراق، ولا أراها ستفرط بسوريا بهذه السهولة حتى لو كان ذلك بتحالفها مع إيران ولبس العمامة الشيعية أو افتتح المساجد بحضور أوردوغان حاملاً السِبحة السنِّية؛ ولم أكن لأستغرب حتى لو صلى بوتين إماماً بهم في ذلك المسجد؛ فهذه سياسية. لهذا جاء تواجد روسيا في سوريا من هذا الباب سياسياً فقط، ولا بأس إن نتج عن هذا بعض الفُتات الاقتصادي مما ستُلقي به الولايات المتحدة الأمريكية على الطاولة عندما يحين وقت توزيع الجوائز. لهذا لم تكن الشيوعية بالشرق الأوسط (ذراع روسيا) بأفضل حال من أسيادنا المشايخ؛ فكما شعر أصحاب الفضيلة أن كل التحريض الذي مارسوه بالتحريض على النظام في سوريا كان يصب في مصلحة إسرائيل بإضعاف الجيش السوري وتهجير الآلاف البشر من بيوتهم بالترهيب أو الترغيب بالدولارات إلى هذه الطوفان من البشر الغارقين في البحار، فحال الشيوعيين أسوأ؛ إذ رأوا في الدور الروسي عوناً للنظام في قصف شعبه وقتله وهم المطالبون بحرية الشعوب ببلدانهم خارج سوريا؛ وبهذا لا يختلفون عن أسيادنا. وثاني الحرج هو أنهم رأوا في الدب بالروسي محققاً للأهداف الإمبريالية الأمريكية المعلنة بخصوص داعش، ولهذا نقرأ لبعضهم أسفهم لسقوط الجنود الروس ضحايا من أجل بشار. هذه الحرب قلبت المفاهيم والمبادئ وجعلت من المتناقضات صداقات. لكن قمة حرجهم (الشيوعيين) كانت عندما شاهدوا محاولات روسيا استرضاء إسرائيل وطمأنتها علناً وعلى التلفزيون بأن وجود الروس بسوريا لن يضر إسرائيل شيئاً، وربما قالوا لها بأنه سيكون درعاً من الدروع الكثيرة التي نذرت نفسها لحماية اسرائيل.&

ومن مظاهر حيرة عامة الشعوب والساسة بخصوص ما يجري في سوريا أن الهدف ليس واضحاً وتبدو المسألة كما لو كانت نوعاً من الفنتازيا؛ فلو كان العرب هم الهدف لما كانت الحرب والعرب يتوافدون على أعتاب البيت الأبيض زرافات ووحدانا كمسئولين وطوابير أمام سفاراته طلباً للهجرة. ولو كان الاقتصاد هدفاً فأموالنا عندهم ونأخذ نحن فوائدها فقط، وإذا كان الهدف هو حماية اسرائيل فهو متحقق بكل أنواع العلاقات الظاهر منه أو ما كان في الخفاء مع اسرائيل، فما الداعي لهذا كله إلا الفنتازيا السادية بالتلذذ برؤية دم الشعوب التي تقتل وتذبح كالخراف، ورؤية البشر تدور كما يقول المصريون كثور الساقية.&

وبما أن الخسائر هي نتيجة حتمية لكل حرب، فأعتقد أن الخاسر الوحيد بعد كل هذه الفنتازيات والمغامرات السياسة هم كالعادة العرب، فكل المصائب على أرضهم ويدفعون ثمنها هم؛ فبعد الحرب العالمية الأولى تقسمنا شذر مذر، وفي الثانية خسرنا فلسطين، وبعد إعلان الحرب على داعش أنها حربٌ عالميةٌ ثالثةٌ ما هو الخسران المرتقب للعرب؟ ربما سيكون اختفاء الرمز الديني عند الشعوب وظهور ما يسمى بالدولة المدنية، وهذا لا أعتبره شخصياً خسارة؛ لكن الخسارة هي عند حدوث العكس وهو طغيان رمز ديني على آخر مما ينذر بالتبشير لحرب دينية عالمية رابعة بعد أن تنهك المنطقة كلها قتلاً ودماراً. خاصة أن هناك من يجهز لهذا الخيار من الآن، وتاريخه معروف في إعلان الحرب على روسيا باعتبارها حرباً جهادية كالتي في أفغانستان. إن صحت هذه النبوءة وسقطنا في بحر سوريا عندها يجب أن نصلي لله ونسأله حسن الخاتمة للأردن.