من المحتمل جداً أن يَعجَب يساريٌ، ذو اتجاهٍ ما، من عنوان المقالة، فنذكّره بقول ماركس: "الإيديولوجيا مضللة"، المفهوم الذي يُمَكّن من تفسير لم َعمّ الضلال معظم الحركات اليسارية العربية، إذ استبدل ثبات الدوغما بحيوية المنهج التحليلي للماركسية، واحتمالاته المفتوحة.&

من المحتمل، كذلك، أن يندهش يميني، من منحى ما، من العنوان، فنذكره بإلحاح أئمتنا الكبار، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، على وجوب تحاشي التلفيق في، وبين، المسائل المنظور فيها، مما يؤدي حُكماً إلى الخلط بين الملتبس والصريح، فهم قد خبروا مآزق المنطق الصوري، وإشكالية أن ما يوضع في المقدمات يتبدّى في النتائج. لكنهم لم يقاربوا المنطق الجدلي لاستغراقهم في مباحث علم الكلام.

واقعياً تكرّس الجماعات الدوغمائية، على اختلاف توجهاتها، جَهدها في تعميم شموليتها الذاتية، وبالتالي يُنتج اتساعها انشقاقاً، وأحياناً تصدّعاً، أو تفرّعاً، بالضرورة. وما تفتأ التفرعات الناشئة المتلبّسَة بنزوعٍ موروثٍ بالتبعية، تجنح إلى توهّم امتلاك حقيقة مطلقة بعينها، الأمر الذي ما يفتأ يحرّضها، لشدة اقتناعها بصواب إطلاقها، على الاعتقاد أن في إمكانها، إبطال، أو إثبات بطلان حقائق الآخرين المطلق منها والنسبي، وفق منطقها الخاص – الإيديوتلفيقي.&

قد يحدث، في أحيان نادرة، أن ينتاب بعض تلك الجماعات، أو معظمها، إحساس بالضعف، أو العجز، لاختلاف الظروف المادية وتبدّل الأحوال، فتنحو، عندها، إلى التفطن لدعوة الآخرين - ومنهم ذوي العقائد المثبت بطلانها - إلى الحوار، أو التوافق، أو التحالف، إزاء أمرٍ بعينه، لاهجة بالعذر الأبدي: نظراً للأخطار الطارئة أو المحدقة أو.. أو.&

غير أن مسائل الحياة المتجددة ما تنفك تطرح قضاياها بقوة وتسارع. في حين يدفع فقدان القدرة على مواكبة مستجدات العصر، لزوماً، بكمٍّ، ليس بالهين، ما يزال محكوما بالانحباس في بوتقة الدوغما، إلى الاضطرار، ومن ثم اعتياد قبول تلفيق الإجابات، مرفقاً بعدم التنبه إلى تناقض السلوك، واللامبالاة بالتصرفات، والتصريحات، السالفة واللاحقة.&

بالتالي يستمر، بحكم العادة الآسرة، ترداد الخُطب بالأسلوب الحماسي العتيق، وتكرار المناداة بشعارات سالفة غابرة، وابتزاز العواطف الشعبية، لسبب جدّ بسيط: التخبط في فخ الأدلجة، أو التلفيق، بدلاً من اللجوء إلى النظر وفق مناهج البحث العلمي، التي ما تفتأ تتطور ما تطورت الحياة، لأنها منبثقة منها، والتي تتطلب، بذاتها ولذاتها، وقتاً وجهداً جهيداً للتخلي عن بعض ما كان مألوفا في الأحوال الرتيبة. وهذا ليس بالأمر الهين.

مع تحاشي الخوض في الحديث عن تلفيقات الإيديولوجيات المتفشية في عالمنا العربي، لنتقصّ، فقط، علاقة الإيديولوجيا بالجغرافيا. من المعلوم أن الإنسان يصنع تاريخه على الأرض التي يعيش عليها، ويجهد فيها، لتحصيل معاشه. ثم تأتي إيديولوجيا ما لتبشّر بأولويتها في رعاية شؤون الناس، فاصلة الإنسان عن أرضه لتربطه بها. لماذا؟ بكل بساطة، لأن أرض الناس الذين يعتنقون تلك الدوغما تغدو أرضها، فإذا ما نزحوا عنها، أو أجلوا، أو تغيّروا، لا تعود الأرض ذات شأن. ولا داعي للتطرق إلى الأمثلة فهي صارخة، ما تفتأ تتردد بكائياتها.&

من الطبيعي أن يبقى الناس مؤمنين بما، سبق، أو أرادوا، الإيمان به، فالعقائد لا تفنى وإنما تتكاثر وتتفرّع. كما من المألوف معرفة الناس عيوبَ أنظمة عيشهم، وارتباكَ أنماط تفكيرهم في مواجهة متطلبات التحديث، لكنهم، بحكم بنية التربية المجتمعية، ما يفتؤون يتشبثون ببعض التقاليد الموروثة، يُكسِبونها عبر الزمن غلالة من القدسية، مما يجعل من الصعب عليهم تقبّل النقد، الموجّه إليها، مهما كان بنّاءً. لذا يميلون إلى مقاومة التغيير، وأحياناً بضراوة، على الرغم من ضرورته.&

لقد تصادف في حالات معينة، استثنائية، اصطدام تقدم المدنية في مجتمع ما بمعوقات ناجمة عن مجابهة التقدم بالأساليب الدوغماتلفيقية. وقد يحدث تحت وطأة بعض الظروف، بالإضافة إلى التردي الاقتصادي، انتكاس مجتمع حضري ما فيتبدّى، أي يعود إلى البداوة، أو شبهها، وقد حصل مثل هذا تاريخياً.&

أخيراً، استنادا إلى المعطيات السالفة، بمَ يمكن تفسير خوضَ، من كانوا إلى عهد قريب يكفّرون الانتخابات ومُبْدِعَتهُا الديمقراطية، غمار معارك انتخابية نيابية؟!!&

من أطرف ما قيل، قول فائزٍ منهم في الانتخابات "إنه تربى - في جماعته - على خدمة المصالح العامة. ولو كانت المصالح الخاصة هدفه لعمل في السياسة"؟؟!!

قال القدماء: "البلاغة ُالإيجاز" فهل هناك وصف لذاك القول التراجيكوميدي أبلغ من: "شرّ البليّة ما يُضحك".&

&

*كاتب صحفي سوري&

&