منذ عهد الامبراطورية القيصرية مروراً بالعهد السوفياتي وعهد البريسترويكا الغورباتشوفية واليلتسينية، ووصولاً إلى الحقبة البوتينية التي تخللتها محطة ميدفيدية. تعددت أشكال دبلوماسية القوة الخشنة، أي التدخل العسكري في شؤون داخلية لدول صديقة أو عدوة لموسكو لحمايتها وحماية المصالح الاستراتيجية وضمان الوصول إلى المياه الدافئة. فخلال نحو قرن من الزمن خاضت موسكو عدداً من الحروب كالحرب الروسية البولونية خلال الفترة 1919-1921، وغزو الجيش الأحمر لجورجيا في العام 1921، وقمعه لثورة باسمتشي وسط آسيا خلال الفترة 1922-1931، وقمعه انتفاضة جورجيا في آب 1924، ومهاجمته المسلمين الصينيين في مقاطعة زيانغ يانغ عام1934، والغزو السوفييتي لبولندا وبيلاروسيا ورومانيا وتقسيم شرق أوروبا وفقا لاتفاقية مولوتوف-ربنتروب عام1939. وحروب البلطيق خلال الفترة 1945-1974، وغزو المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا (السابقة) عام 1968، وغزو أفغانستان خلال الفترة 1979-1989.

في جميع هذه المناسبات لم تتعرض سياسات القوة التي اتبعتها النخب الحاكمة في الكرملين لمعارضة جدية بخلاف التدخلات العسكرية الأميركية والأوروبية التي كان لها تداعيات داخلية في الديمقراطيات الغربية حيث ظهرت حركات وجماعات مناوئة للحروب بسبب عدوانيتها وكلفتها البشرية والاقتصادية المرتفعة. ولم تتبلور عقدة أفغانستان لدى الروس على غرار عقدة فيتنام ردى الأميركيين.

&والأمر اللافت أن كافة القوى المعارضة على اختلاف تياراتها وانتماءاتها الفكرية والقومية والاجتماعية لم تظهر أبدا أنها معنية بالسياسة الخارجية، ولم تتأثر بالمتغيرات الإقليمية والعالمية تأثراً كبيراً. ومنها ثورة الورود في جورجيا (2003)، والثورة البرتقالية في أوكرانيا (2004).

كما أن الاحتجاجات الكبيرة التي عمّت روسيا في الفترة الممتدة من نهاية العام 2011 والشهور الأولى من العام 2012، لم تتطور إلى "ربيع روسي" على غرار "الربيع العربي". إذ أنه سرعان ما قدمت السلطات الروسية بعض التنازلات السياسية، وسارعت إلى إقرار حزمة من القوانين الرامية إلى خفض "عتبة" دخول الأحزاب إلى مجلس الدوما الروسي (مجلس النواب) من 7% إلى 5%، والعودة من جديد إلى انتخاب حكام الأقاليم والمناطق الروسية عبر الانتخاب المباشر، والذي ألغاه بوتين في العام 2004. كما جرى تخفيف القيود على تأسيس الاحزاب السياسية، إذ أصبح كافيا الآن لتأسيس الحزب السياسي تجميع 500 شخص.

واكتفت المعارضة الروسية بالتعليق على أحداث جرت في ليبيا وسوريا، حيث دفع مقتل السفير الأميركي في بنغازي زعيم الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي على توقع حدوث تدخل عسكري أميركي، من خلال قوله:" لا شك في أن هذا الأمر سيسمح للولايات المتحدة بنشر سفنها في البحر الأبيض المتوسط وضرب سوريا". بينما اكتفى زعيم الحزب الشيوعي الروسي غينادي زيوغانوف بالقول إن واشنطن"تحصد ما زرعت".&

ومن المعروف أن الحزب الشيوعي يتفق مع سياسة الكرملين في ما يتعلق بمواقفه من سوريا و"الربيع العربي" والوضع في منطقة الشرق الأوسط. وعلى سبيل المثال، قال فيتشيسلاف تيتيوكين، نائب عن الحزب الشيوعي في مجلس الدوما، وهو عضو في المكتب السياسي للحزب:" أن ما تعيشه سوريا اليوم ليس إلا حالات متواصلة من الاستفزاز التي تتلاعب بها أياد خارجية من شأنها تحويل المنطقة إلى ساحة خالية من الدفاع ويغيب فيها النظام"، وأكد أنه "لولا دعم روسيا والصين لنظام الأسد لكان سقط هذا النظام منذ زمن، وأن الكرملين كان محقا في تشديده على ترك الأمور الداخلية بيد الشعوب".

&ولخص موقف الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي رئيسه فلاديمير جيرينوفسكي الذي قال:"ندعم السلطة السورية بقوة، وموقف الكرملين على الرغم من اختلافنا معه جيد يشاد به وبحيلولته لوقوع أي تدخل خارجي تحلم به واشنطن وتسعى لتحقيقه بكل الأثمان".&

&وعلى هذه الخلفية ثمة رزمة أسئلة تطرح نفسها بقوة، منها: لماذا لا تبدي المعارضة الروسية اهتماماً بسياسة الكرملين الخارجية؟؛ هل هي معارضة داخلية تكتفي بأدنى درجات النضال، أي النضال المطلبي المتمحور على تلبية السلطة الحاكمة لمتطلبات قضايا معيشية وخدمية للمواطنين؛ و لماذا يدعم عموم الروس فلاديمير بوتين، ولماذا يشار إليه باسم "batyushka" أي "الأب المقدس"؟. وهل يمكن التعويل على احتمال تطور مواقف بعض أصوات النخب السياسية والثقافية المعارضة للتدخل العسكري الروسي في سورية؟.

مما لاشك فيه أن تركيبة القوى المعارضة الروسية، فضلاً عن انقساماتها، حددت وظيفتها وأهدافها التي لا تتجاوز حدود السياسة الداخلية. ومن تلك القوى: القوى والمجموعات اليسارية الوطنية التي مثلها حزب البولشفيك الوطني “N B P”، بقيادة ادوارد ليمونوف، الذي ينادي الحزب بالحريات السياسية والقومية والروسية والهيمنة الروسية على السياسة الخارجية، ورفع شعارات تمجد ستالين، وحاول الحزب خلق متاعب سياسية لحكومة بوتين، فاضطرت الحكومة لتضييق الخناق عليه واعتقلت قائده ليمونوف في 2001-،2003.

أما حركة روسيا الأخرى التي تأسست في العام 2007 بزعامة ليمونوف نفسه وبطل الشطرنج غاري كاسباروف التي نظمت مسيرات شعبية مضادة للحكومة، فقد تعرضت للترهيب الأمني الحكومي.

وهناك مجموعات يسارية مناوئة للتوجهات القومية، تتميز بالنشاط والحيوية على الرغم من صغرها ومحدوديتها، وتتكون من اشتراكيين، تروتسكيين، فوضويين ومجموعات وشبكات يسارية حديثة. وتستمد هذه المجموعات قوتها من تنوع ناشطيها الجغرافي والسياسي، وتنوع حملاتها المحلية التي تتعاون فيها مع الاتحادات التجارية، والمجموعات المناهضة للفاشية. وفي بداية العام 2000 تظاهرت هذه المجموعات ضد حرب الشيشان.

ونشطت الحركات الاجتماعية أثناء فترة رئاسة بوتين الثانية “2004 - 2008”. فقد اطلقت الاجراءات والاصلاحات الجديدة التي فرضتها حكومة بوتين على الخدمات العامة، احتجاجات شملت روسيا كلها، لأن ملايين الأسر التي كانت تتمتع بخدمات عامة واجتماعية مجانية أو شبه مجانية، غدت مهددة بخسارة هذه الخدمات أو مضطرة لدفع مقابل مادي لا تستطيع تحمله.

وتبنى البرلمان الروسي في العام نفسه، قانوناً يضع تصوراً لتستبدال المنافع المجانية بتعويضات نقدية، وحول البرلمان مسؤولية تنفيذ القانون من الحكومة المركزية للأقاليم. وبدأ في يناير/كانون الثاني 2005 تطبيق القانون الجديد، واندلعت تظاهرات واحتجاجات شعبية مناهضة في عشرات المدن الروسية. ولم تكن تلك التظاهرات ضخمة بالمعايير الروسية، لكنها لقيت تأييداً وتعاطفاً من الاغلبية. ورفع المتظاهرون سقف مطالبهم، ودعوا لمساءلة الوزراء المسؤولين عن حزمة الاصلاحات والاجراءات الحكومية، وعندما رفضت الحكومة الاستجابة لهم، طالبوا باستقالة حكومة بوتين بأكملها، واضطر بوتين لركوب الموجة ووبخ الوزراء بعنف.&

يعتقد أن بوتين استطاع كسب محبة عموم المواطنين الروس لرزمة أسباب لخصها أحد استطلاعات الرأي، بالتالي منها: إنه أقوى سياسي في روسيا، وهو من بنى الطبقة الوسطى في روسيا، وساهم في تحسين مستوى الرفاهية، وأعاد إلى روسيا هيبتها، وغياب البديل لبوتين، وهو الذي يسعى إلى الإستمرار في الحكم حتى عام 2024 ليكون بذلك قد حكم روسيا رئيساً لمدة 20 عاما، وإذا أضفنا الأعوام الأربعة، التي تولى فيها رئاسة الوزراء –الفترة 2008 2012- فسيكون قد حكم روسيا لمدة 24 عاما. وهي مدة أقل قليلا من مدة حكم ستالين (30 سنة)، وأطول من مدة حكم بريجنيف (18 سنة).

&لكن حقائق المشهد الداخلي الروسي تكشف عن أسرار قوة بوتين الحقيقية في مواجهة المنافسين أو المعارضين المحتملين. وفي مقدمها الفساد بأنواعه. حيث يُرجع مدير معهد قضايا العولمة ميخائيل ديلياغين أسباب استشراء الفساد في روسيا على نطاق واسع خلال الأعوام العشرة الأخيرة إلى تزاوج السلطة والمال، حيث يسيطر كبار رجال الدولة، وهم من المقربين لبوتين، على القطاعات الأساسية للاقتصاد الروسي.&

وتشير كارين داويشا، أستاذة السياسة السوفيتية والروسية في جامعة ميامي بأوهايو، في كتابها "كلبتوقراطية بوتين.. من يمتلك روسيا؟"، إلى أن منظمة الشفافية الدولية تقدر التكلفة السنوية للرشوة في روسيا بنحو 300 مليار دولار. وقدرت داويشا ثروة بوتين الخاصة تقدر بنحو أربعين مليار دولار، وتؤكد داويشا أن أكثر من نصف المليارات الخمسين التي أنفقت على دورة الألعاب الأوليمبية في سوتشي، اختفت في جيوب محاسيب الرئيس.

&ويصف سايمون بيراني، في كتابه "التحول في روسيا بوتين - السلطة والمال والشعب"، تحول جهاز “كي جي بي” بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، من جهاز استخبارات أبرز مهمة التجسس على الحكومات الأجنبية ومراقبة الحدود الى جهاز أو بالأحرى تحول ضباط الجهاز الى معاونة أباطرة المال في عهد يلتسين، ثم مساعدة بوتين على تدعيم حكمه وضرب خصومه السياسيين.

ويضاف على عوامل قوة بوتين، استغلاله للحرب الشيشانية الثانية لتدعيم حكمه، حيث كان يتعمد الظهور بمظهر الجندي الوطني المقاتل من أجل بلاده، ولذلك ازدادت شعبيته، وتوحدت كل القوى السياسية الروسية خلفه، بعكس حرب الشيشان الأولى في عهد يلتسين التي شهدت انقساماً سياسياً وأمنياً حاداً في روسيا.

ووفق هذه المعطيات للواقع الداخلي الروسي، يبدو التعويل على إمكانية حدوث انقسام روسي كبير بشأن التدخل العسكري في سوريا، هو مجرد سراب، وانتظاراً ل"غودو" روسي ليثبت أن روسيا "صديقة وفية للشعوب" وليست "سجناً للشعب"، حسب تعبير كارل ماركس.&