&

في جلسة بمقهى مع صديقتين مختلفتي الهوية والانتماء الديني والثقافي والقومي، تلمست بوضوح انعكاس هذا الاختلاف على رأييهما بحادثة معينة.
إحداهما بريطانية، ديانتها المسيحية وكاثوليكية المذهب، اعرف عنها انها متدينة ومن المواظبين على الكنيسة كل يوم احد. والثانية عربية تنتمي لأسرة مسلمة، لكنها تعرّف نفسها على أنها لادينية. دار الحديث بيننا عن الأوضاع العامة في بريطانيا، سياسيا وانسانيا، وعن اللاجئين وأحوالهم، وجدل فتح أبواب اللجوء للسوريين وغيرهم. أخذتنا الاحاديث الى فاجعة الحج الأخيرة، وأسباب حصولها هذا العام، وحدوث أشياء قريبة عليها في الأعوام الماضية. اثناء الحديث اندفعت البريطانية للدفاع عن المسلمين و حقهم في ممارسة طقوسهم في الحج رداً على استهزاء الصديقة العربية تجاه الحجاج، بل وشماتتها بسقوط قتلى في مكة. كانت البريطانية ترى في الحج& طقس ديني يجب احترامه ولا يحق لأحد الاستهزاء به، وأبدت حزنها على العدد الكبير من ضحايا الحوادث الأخيرة، بينما الأخرى، التي تنتمي في الإطار العام للهوية، الى هوية الضحايا، عاكستها الموقف الى حد كبير. الأمر مثير للاستغراب.
وأنا اتابع الحوار بين الاثنتين، وجدت نفسي متفرجة تحاول فهم مشهد من مشاهد "الحبكة السينمائية". يتمنى المرء ان يكون هذا الحوار مجرد فيلم، وليس حقيقة. مفارقة وحيرة أن سيدة كاثوليكية متدينة تدافع عن حقوق المسلمين بانفعال، والأخرى التي تشبه لونا ودما وانتماء بعض القتلى تشمت!. بعد شاسع بين رؤيتين، لا علاقة للدين بهما، بل هما مجرد تصورين عن الحياة والانسان.
من يعيش في أوربا فترة لا بأس بها من الزمن، ويحاول أن يعايش الأشياء بتجرد، يتيقن أن الانسانية هي ثقافة شعب يتم تدريسها منذ الصغر، ثقافة كيف ان تكون انسانياً، بدءاً من الاسرة ثم المدرسة ثم الممارسة اليومية في الحياة العامة. فمثلاً تجد في المدارس الغربية يتم تعليم الأطفال على مساعدة الآخرين، كأن يطلب منهم جمع المال لمساعدة المحتاجين او الاعتناء بكبار السن.
فهذه الملاحظات اليومية في داخل مجتمع يجمع المتدين واللاديني، تشير الى أن الانسانية تنشئة مكتسبة، يتم تعليمها وبنائها تدريجيا. هي ليست حكراً على عرق ودين، انما تريد اصرارا على تحويلها الى قاعدة اجتماعية، تعتمد على ثقافة ان نكون إنسانيين بغض النظر عن الانسان ولونه ودينه وقوميته. أي ان النظرة الانسانية تلعب فاعليتها بالامتزاج بين المعرفة والممارسة.
ورغم بساطة مفهوم الانسانية حين نلاحظها في الممارسة اليومية لدى الشعوب الحساسة انسانيا، لكنه ليس مجرد نقاط صغيرة، كمساعدة الآخرين والشعور بالحزن عندما يتألم أحدهم، هذه مظاهر من مظاهر الحساسية، يجمعها مفهوم كلي واسع لا تحصى حالاته، بل تتكاثر بحسب الظرف والمكان والزمان والحدث... المفهوم يعتمد على أن الانسان الفرد هو الأولوية القصوى، قبل أي اعتبارات أخرى... سواء في القوانين، أو في التعاملات اليومية، أو في الحياة العامة في ساعات الصخب او أوقات الاستراخاء.
ممكن ان الانسانية ارتبطت لدى الكثيرين بلائحة حقوق الانسان المعتمدة في الأمم المتحدة، وفي الحقيقة اللائحة نابعة من المعنى الاول: أن العيش حق أصيل لكل البشر، ثم أن الفرد قبل الأسرة قبل المجتمع قبل أي شيء... فلا يمكن أن تبنى أسرة اذا لم يكن هناك خصوصية للإنسان الفرد وحقوق خاصة به، ولا يعول على مجتمع يكون أفراده شأناً ثانويا. ولأن المفهوم الانساني يعلي الفرد ويحفظ حقوقه، فإنه ايضا يعمل على تنظيم الحدود بين الافراد كي لا يطغى احدهم على الاخر. لذا فإن واحدة من أهم الأسس هو المقولة الشهيرة المنسوبة لمونتسكيو& والتي تعد الأهم في حياة الشعوب الغربية (تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الاخرين)... وبهذه الحالة تصبح الحساسية الانسانية وضمان حقوق الفرد ضمانة أيضا لديمومة المجتمع.
إن الحساسية الانسانية والمفهوم الواسع لها يتخذ طريقه في الممارسة الى تفصيلات التفصيلات في حياة الأفراد، فهو يتسرب لا شعوريا الى ممارسات صغيرة ويومية، لتصبح قالباً لا ارادياً لدى الناس، دون النظر الى أي تفصيلات اخرى غير أن الاخرين هم بشر. فالانسانية تعمي الناشئين عليها على رؤية دين ولون وعرق الاخرين.&
هنا لا يعني أن الشعوب الأخرى لا تمتلك شعورا انسانياً في الكثير من الحالات، لكن يعني أن الحساسية غير كاملة، ناقصة بدرجة رئيسية... والسبب في هذا ان الانتماء الرئيسي، الذي يحرك المشاعر والرأي والموقف في بلدان اخرى وشعوب ثانية، كالشعوب العربية، هو الانتماء الجمعي، سواء المذهب او القومية او القبيلة أو الطبقية... وليس الإحساس بالأفراد، لذات تصبح الأولوية للمشابهين لنا في انتماءاتنا، ثم بعد ذلك تأتي المشاعر الانسانية. طبعا مع التأكيد المستمر على أن الحساسية قبل كل شيء تعلي شأن الحياة ولا تفكر بالموت ولا تتمناه.
وايضا هذا لا يعني ان المجتمعات الغربية مجتمعات كاملة، فهي تعاني ايضا من الكثير من المشكلات، واحيانا تخضع لخديعة السياسات، لكن يعني قوة الحساسية الانسانية لدرجة انها تشبه من يفز على صوت "انفجار". ولذا لم ترى الكاثولويكية موت المسلمين بعين دينها، لأنها نشأت على غير ذلك، بينما قيّمت العربية الأمر بحسب المعتقد.
الخلاصة، عندما أكون إنسانية أكون في الوقت ذاته عمياء لا يثير إنسانيتي المذهب او اللون او العرق إنما الانسان فقط. ثقافة الانسانية لا تأتي من فراغ، هي جزء من حضارة الشعوب او بمعنى أدق الحساسية الانسانية هي محرك قيم الحضارة الحديثة، وهي التي ستكفل يوما ما الوقوف ضد السياسات الجائرة التي تبنيها مصالح الدول الكبرى، والتي تتصرف في الكثير من الاحيان خلاف قيم مجتمعاتها.

&